مقدمة:
لماذا أكتب عن الإمام الحسين؟! إجابة السؤال قد تأتي إلى ذهن البعض في صورة حب الرجل الذي هام به كثيرون، ومن بينهم أهل مصر، إلا أنني لا أكتب في الحسين حبا فيه أومدحا لأخلاقه وثناء على شمائله، بل إنني أكتب عن ذلك الإمام كي أتعلم منه، وأكتب عنه دفاعا عن الحق، وإظهارا لصفحة ناصعة من صفحات تاريخنا الإسلامي المجيد، ولكن هل الحسين بحاجة إلى قلمي كي يتحقق ما أزعم؟! بالتأكيد لا! ولكن كثيرين ممن مروا بالسيرة العطرة للإمام مر الكرام، وأكثر ممن لم يحاولوا الاطلاع عليها أساسا، في حاجة ماسة لقراءة السطور التالية.
فنحن كأمة الإسلام في مرحلة تتلاطم فيها التيارات وتكثر الأطروحات وتسود لغة السياسة على الخطاب الإسلامي المعارض، وهذا يجعلنا أحوج ما نكون للتعرض لأمثلة من تاريخنا تتناول الجانب السياسي على الصعيد الداخلي للدولة، وبالتأكيد يقف الإمام الحسين شامخا رائدا في هذا المضمار.
حين يتعلق الأمر بالخروج عن الحاكم، فإنك تجد صيحات التحذير تتعالى من كل جانب، والمصطلحات المائعة تسود، والحق يغيب في بحور من المجاملات الغريبة عن التاريخ، وإذا رجعنا للدولة النبوية في المدينة فسنجد فكرة الخروج عن النبي (ص) غير مطروحة بين الصحابة لأسباب عديدة لا يتسع المقام لذكرها، ولكن هذا لم يمنع ظهور المعارضة السياسية من حين لآخر، كاعتراض الأنصار صراحة على تقسيم الغنائم التي نالت منها قريش نصيب الأسد بعد غزوة حُنين في العام الثامن الهجري، ونرى كيف تعامل النبي الأعظم (ص) مع المعارضة بحكمة شديدة حتى ساد الاتفاق بتبيان الخطأ الذي وقع فيه المعارضون وقناعة الأنصار بالقرار النبوي المعصوم.
ولكن مع اتساع دولة الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين، بل ومنذ رحيل المصطفى (ص) إلى الرفيق الأعلى، بدأت المعارضة تتخذ أشكالا عدة، بداية من سقيفة بني ساعدة، مرورا باعتزال سعد بن عبادة، والخلاف الحاد بين الخليفة عثمان بن عفان وأبي ذر الغفاري، حتى الثورة على الخليفة عثمان نفسه والتي انتهت باستشهاده، هنا بدأت المعارضة تتخذ شكلا متدرج الشدة، ولعل لين الخليفة عثمان قد حسم الفتنة في عهده لصالح الثوار، أما نقطة القمة في المنحنى فقد تمثلت في خروج معاوية بن أبي سفيان عن الإمام علي بن أبي طالب إبان خلافة الأخير.
وقد يرى البعض أنه مع تحويل بني أمية نظام الشورى في الخلافة إلى نظام الملكية الوراثية قد استتب الأمر لهم تماما في شتى أرجاء الدولة الإسلامية، ولكن هذا الاستتباب لم يأت بسهولة، وعلى رأس من تصدى لحملة الطغيان الأموي، كان إمامنا الحسين...
من هو الحسين؟
هو الحسين بن علي بن أبي طالب، وابن فاطمة الزهراء بنت محمد (ص) بن عبد الله، جده لأمه هو سيد الخلق أجمعين، وهو الذي قال عنه وعن أخيه الحسن "هما ريحانتاي من الدنيا"، وقد قال المصطفى (ص) أيضا في فضل الحسين"حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط"- البخاري، ولا ينسى أحدنا الرواية الشهيرة أن النبي (ص) كان يطيل من سجوده أثناء صعود الحسن والحسين وهما طفلان بعد على ظهره الشريف.
أمه هي فاطمة الزهراء، سيدة نساء العالمين، بنت السيدة خديجة حبيبة المصطفى ونصيرته، وقد قال فيها أبوها (ص) "رضا فاطمة من رضاي"، أبوه هو علي الحيدرة، باب مدينة العلم، أبلغ الصحابة، بطل يوم خيبر، الفدائي الأول، منزلته من النبي (ص) كمنزلة هارون من موسى، قال فيه (ص): "من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" –النسائي.
عمه هو الشهيد جعفر الطيار ذو الجناحين، رئيس بعثة المهاجرين للحبشة، أبو المساكين، أخوه هو الإمام الحسن السبط، أخته هي عقيلة بني هاشم وسيدة نساء عصرها السيدة زينب.
كان هذا هو الحسين بن علي حسبا ونسبا، ولم يكتف الحسين بنسبه الأشرف، فكان دوما في طليعة الجيوش الفاتحة لإفريقية،بل سطر بدمائه مجدا وتضحية توج بهما مسيرته الشريفة.
الحسين معارضا:
تولى يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الخلافة انتزاعا بالسيف سنة 60هـ، كان أبوه معاوية يرى أن عقبات ثلاثا في طريق ابنه لتولي الحكم من بعده: عبد الله بن عمر، عبد الله بن الزبير، الحسين بن علي.
مات الإمام الحسن مسموما بعد أن رضي ببيعة معاوية في عام الجماعة وخطب خطبته الشهيرة، أما عبد الله بن عمر فكان تقيا زاهدا لم يرد الإمارة يوما وآثر اعتزال القوم، بقي عبد الله بن الزبير والحسين بن علي كعقبتين في طريق يزيد كخليفة للمسلمين.
بمجرد تولي يزيد أمور الخلافة ثارت ضمائر من بقي من الصحابة حيا، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر كلمته المشهورة "جعلوها هرقلية، كلما مات هرقل قام هرقل"، وأمام طلب المسلمين له، رفض الإمام الحسين بيعة يزيد، ولم يستدرج أو يضعف، وخرج إلى الكوفة من المدينة حاملا آل بيته وبضع وسبعين من أنصاره على أن يلحق بمن شايعه من أهل الكوفة فيكون جيشا في مواجهة الحكم الفاسد ليزيد.
وما إن وصل الإمام إلى العراق حتى جاءته أنباء عن شراء عبيد الله بن زياد والي الكوفة لذمم الناس، وبالتالي فلن يجد الحسين له نصيرا! عسكر الإمام في منطقة عرفت فيم بعد باسم كربلاء – كرب وبلاء- وأرسل لابن زياد مسلما بن عقيل بن أبي طالب للتفاوض فلم يعد واستشهد مقتولا! وكانت المفاجأة هي تحرك جيش من الكوفة يقوده عمر بن سعد لحصار المعسكر الحسيني الذي لم يبلغ تعداد أفراده الرقم المئوي بعد!
أدرك الإمام الحسين خطورة الموقف فأعلن عدم رغبته في الحرب، وأرسل للقوم يخيرهم بين ثلاث:
1- أن يتركوه يلحق بيزيد في الشام.
2- أن يتركوه يعود من حيث أتى.
3- أن يتركوه يرحل إلى بعض ثغور المسلمين يرابط فيها.
أبى المعسكر الآخر إلا ان يستسلم الحسين ومن معه كأسرى لجيش يزيد! وبالطبع ما كان الإمام ليقبل وحاول الرجوع إلا ان الحصار ضاق على معسكره من كل جانب...
وليس المقام هنا لذكر الفظائع التي ارتكبها القوم بحق الحسين من حرمانه الماء في الأيام الأولى للحصار، وقتل ابنه الرضيع عبد الله بين يديه بسهم خبيث، وقُتل الإمام نفسه يوم عاشوراء وحُز رأسه الشريف وثُبِّت على زج رمح حتى وصلت للطاغية في الشام، وربط الجسد الطاهر بسنابك الخيل تجره حتى سُوي بالأرض! ولم تجد بطولات الحر الرياحي ولا زهير بن القين نفعا أمام جيش ابن زياد الذي أخذ نساء آل البيت سبايا إلى دمشق! تكفينا الإشارة فقط إلى نلك الجرائم المعادية للإنسانية التي ارتكبها ذلك الجيش، ولم يكتف يزيد بهذا فبعد عامين فقط من واقعة كربلاء وبالتحديد سنة 63 هـ نفذ قائده الحجاج واقعة الحرة التي استباح فيها المدينة وقتل الأبرياء بالألوف ليصلب بعدها بعشر سنوات – في عهد عبد الملك بن مروان- رمز المعارضة الثاني عبد الله بن الزبير الذي قال في يزيد "لا أُبايع السكير".
إنجاز الحسين السياسي:
ربما يندهش البعض حينما أأتي إلى هذه النقطة تحديدا وأتحدث عن الإنجاز السياسي الرائد للإمام الحسين، فالإمام وهو ابن السابعة والخمسين ضرب مثلا يُحتذى بالمعارضة السياسية الفعّالة الإيجابية لكل نظام فاسد مستبد.
فالحسين وقد ذكرت نسبه الشريف بالأعلى، لم يعتمد على عظام الأجداد، بل عمل بنفسه فعاش حياته مجاهدا بين جيوش الإسلام الفاتحة، وختمها بشهادة في موقف يليق بمكانة آل البيت من تضحية وفداء.
ولم يكن دافع الحسين شخصيا وراء خروجه، فهو رفض بيعة يزيد بداية، ولم يخرج لقتاله إلا حينما ظهرت مساوئ حكم يزيد فعليا، ولم يخرج للقتال أيضا إلا بدعوة من أهل الكوفة وهو ما يعني الارتكاز إلى تخطيط منطقي قائم على صرورة الاستناد إلى جيش ينصر حتى لا تكون المحاولة مجرد تهور، وهو ما أكده الإمام بعرضه الخيارات الثلاثة على جيش ابن زياد بعد أن خذله أهل الكوفة.
لم يكترث الإمام بالتضييق الشديد الذي تعرض له في المدينة، وبنهاية أخيه الإمام الحسن بسبب المعارضة نفسها، ولا بمعاناة أبيه الإمام علي المستمرة مع معاوية أو مع الخوارج، ولا بسب أبيه على المنابر علنا جهارا!
وأكد الإمام كثيرا أن دافعه الأول للخروج كان هو إصلاح هذا الدين بعدما بدأت تتغير المفاهيم أمام الناس، وصارت هناك ازدواجية، وجه سياسي ووجه ديني! وقد قال في هدفه هذا "إن كان دين محمد لا يستقيم إلا بقتلي، يا سيوف خذيني".
حطم الإمام الحسين أسطورة أن الحاكم وإن كان ظالما فلنتخذ زاوية عزلة من الحياة ولنكتفي بالوعظ والإرشاد فيم بيننا، وبالتالي نسف حالة المغايرة التي كانت ستسود بالفصل التدريجي بين الدين والسلطة السياسية!
يمكنني القول أن الإمام الحسين يعتبر بطل المعارضة الحقة في السياسة الإسلامية في صفحات تاريخها الأولى!
تفسيرات معاصرة:
لا يخفى على أحد اليوم أن كثيرا من علمائنا يتعاملون بحذر شديد مع التاريخ الإسلامي، وبمنتهى الصراحة أقول مثلا أن خطابا إسلاميا كالخطاب الإسلامي المصري أو السعودي يتحاشى دوما التعرض لقصة الإمام الحسين أبي الشهداء، لماذا؟! لأنها تنسف السياسة التابعة للدولة الصادرة عن المؤسسة الدينية هنا وهناك!
فما الذي يدفع بعض المتشدقين –قديما وحديثا- للزعم بأن الإمام الحسين قد خرج طلبا للإمارة؟! هذا لأن فقهاء السلطان يدركون خطورة تأثير النموذج الحسيني على الشباب المسلم وهو ما يتعارض مع ما يحمله الخطاب الإسلامي المعاصر الذي يرتكز على نواح إيمانية وفقهيات هامشية، كالحيض والنفاس والطهارة والموقف من الرافضة وما شابه، فلا تجد شابا ملتزما يعرف شيئا عن الحسين وموقفه السياسي، ربما لأن اسم الإمام قد ارتبط شرطيا بالشيعة، وهو ما يدخله تلقائيا ضمن قائمة الممنوعات في إطار حملة السُعار المضاد لكل ما هو غيرك! وقد تجد السبب ساذجا أن يزيد بن معاوية كان متأولا أو لديه شبهة حق! وهي ثقافة ساذجة، أشبه ما تكون بكتب التعليم المدرسية، التي تزعم أن عبد الناصر والسادات كلاهما صحيح، كذلك الزاعمون بأن الحسين ويزيد كلاهما صحيح، ولا أدري منذ متى كان الشيء ونقيضه صحيحين؟! هذا حق وهذا باطل، قد يكون النقيضان باطلا لكن يستحيل أن يكون الاثنان حقا، ولا أجد تعليلا واحدا للمراء في التاريخ!
إن دولا إسلامية- خليجية وغير خليجية- يُشَّكل النموذج الحسيني بالنسبة لنظمها التي تدعي تطبيق الشريعة ضربة قاصمة، فالنموذج الحسيني رفض فكرة التوريث كمبدء إسلامي، بحيث يكون اختيار خليفة المسلمين شورى بينهم، وهو ما يهدم شرعية الكثير من النظم الملكية الدكتاتورية في أصقاع العالم الإسلامي، كما أن هذا النموذج كما ذكرت سلفا يرفض أن تسري الشريعة على الجماهير – كما هو مزعوم- في حين يُعفى منها الحاكم الممارس لمخالفات شرعية صريحة وهو ما ينطبق تماما على المشهد في كثير من البلدان الإسلامية، فأنت تجد الزاني يُجلد أو يُرجم كتطبيق لنص شرعي بينما يُفرض الجهل وتُيسر أسباب التخلف لأبناء هذا الشعب وهو ما يتعارض والإسلام!
تجد العلماء الرسميين أنفسهم يفتون بتحريم حلق اللحى ينما يحلقها حاكمهم الذي يدعون له على المنابر وينادون ببيعة وريثه فور موته! تجدهم يُفتون بتحريم السلام على الأجنبية، وتجد نفس ذات الحاكم يقدم لها كعكة عيد ميلاد! تجدهم يتشدقون بالولاء والبراء وهم من يساندون حكاما جعلوا من بلادهم قواعد صليبية!
كل هذا يتنافى والنموذج الحسيني، الذي يرفض أن تسير الأمور الشرعية في واد والسياسة والسلطة في آخر!
خاتمة:
أعلم تمام العلم أنني لم أوف سيدنا الحسين حقه من الحديث، ولكن كما قلت آنفا فإن الكلام كان لنا عن الحسين ولم يكن عن الحسين لنا! ودافعي وراء الكتابة هو ما أؤكده مجددا، القراءة الخاطئة أو عدم القراءة أحيانا لتاريخنا الإسلامي...
ونهاية أختم بتحية للحسين وأبيه وأمه وقبلهم الجد الشريف، معلم البشرية الأول، بأبي وأمي، سيدي رسول الله...
تذييل: كتبت هذا الموضوع قبل عام، ورأيت إمكانية إعادة نشره اليوم مع ذكرى عاشوراء، الصورة المرفقة التقطتها أنا وصديقي أحمد عطية وقتما عملنا معا في ملف صحفي قبل عامين له معنا أجمل الذكريات...