الأحد، سبتمبر 29، 2013

رأيي في الناصرية


أنت لست ملزما بقراءة ما أكتب إن كان لا يهمك رأيي أو لا يهمك التعرف على الآراء في المطلق، وبالتالي إن كنت قد كوّنت قناعة كاملة عن فكرة "الناصرية" لن تهتز أبدا يمينا أو يسارا فلا معنى لإضاعة وقتك في مطالعة السطور التالية، أما إن كنت تقبل أن تستمع إلى رأي قد لا يوافق قناعتك كثيرا فأهلا وسهلا.
كثر الحديث هذه الأيام بمناسبة ذكرى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر عن تجربته في حكم مصر ولاحظت أن الأصدقاء انقسموا في أغلبهم بين ممجد للرجل ولاعن له، وساءني كثيرا التطرف والشطط في كلا الخطابين، وهذا لا يعني أنني أقف في المنتصف أو أحاول ذلك.. فقناعتي الشخصية أن هناك أمورا لا تجوز وكذلك هناك مسائل لا تحتمل الحياد، واختصارا للمسافة فأنا أقول إنني من رافضي التجربة الناصرية، ولا أرى التغني بها إلا نوعا من الاستغاثة من رمضاء الحاضر بنار الماضي، ولكن كيف بنيت رأيي وكوّنت هذه القناعة؟ هذا ما أحاول تبيانه.
أولا أنا ضد اختصار الأمر كله في شخص عبد الناصر والحديث عن زوجته ومذهبها الديني أو عن مآل حال أبنائه، أو أن أحلل شخصيته نفسيا وموقفه من طبقة الأغنياء عموما لا الإقطاعيين فحسب، فكل ما يهمني هو التجربة بشكل عام.
لعل الإيجابية الأولى للحقبة الناصرية هي وضوح الرؤية لدى القائمين على السلطة، فهناك مشروع في إطار انتماء قومي عروبي وبأيديولوجية اشتراكية، وهناك أدوات مباشرة لتنفيذ هذا المشروع بعيدا عن فوضى المداولات وتلكؤ السعي نحو الوفاق المستحيل، وبالتالي عرفنا بسرعة فكرة الصناعات العملاقة والمشروعات الطموحة كالسد العالي وإنتاج السيارات وغيرها، كما خطونا قدما في اتجاه محو الأمية.
وخارجيا صار لمصر وضع خاص كدولة رائدة بحق لها نفوذ كبير في محيطيها العربي والأفريقي وحتى خارجهما من خلال مجموعة دول عدم الانحياز، صحيح أن المحيط العربي انقسم بين رجعي وتقدمي ولكن هذه هي طبيعة الأشياء.. وهو إلى الآن لا يزال منقسما وسيظل طالما كانت الدول تتبنى أفكارا مغايرة وتختلف نظرتها إلى الكثير من القيم.. فكل المطلوب من فكرة الوحدة العربية هي وحدة القرار ربما بحيث يكون هناك حد أدنى من المواقف الجمعية تجاه قضايا رئيسية، وأعتقد أن الفترة الناصرية شهدت ذلك الإجماع، على الأقل فيما يخص القضية المركزية: فلسطين، وهو موقف من غير الوارد الآن مجرد التفكير فيه.
في المقابل، دشن عصر عبد الناصر الدولة البوليسية الحقيقية التي تفوق ما كان عليه الوضع أيام الملكية بكثير، فالمعتقلات اتسعت للجميع، وأحسب أن من نحسبهم شهداء من طراز عبد القادر عودة وسيد قطب وشهدي عطية وغيرهم من غير المشاهير سيبقون عالقين في ضمير كل من يحاول تبرير جرائم تلك الحقبة، شأنهم شأن الرئيس محمد نجيب، ولا أستطيع أن أتخيل شخصا يدافع عن ممارسات شمس بدران أو صلاح نصر أو حتى عبد الحكيم عامر.
من القمع الداخلي وكبت حريات الصحافة والرأي وتعقب فلول الأحزاب بمن فيها الأحزاب الوطنية كالوفد، جاءت عملية قسم المجتمع بشكل طبقي من خلال خلق حالة من العداء بين الأغنياء وغير الأغنياء عموما.. ولا أقول الفقراء فقط لأن الأمر لا يمكن اختزاله في ثنائية تتجاوز الطبقة الوسطى.
قوانين الإصلاح الزراعي كانت أول مسمار في نعش القطن المصري، وخفض إيجارات العقارات ونقل ملكية المساكن فعليا إلى المستأجرين كان قرارا يحمل ظلما كبيرا لقطاع ما ربما لم يعاد الثورة ولم يكن داعما لقوى الإمبريالية، وجعلت الأمر يبدو وكأنه لا بديل لنصرة غير الأغنياء إلا عن طريق تحويل الأغنياء إلى فقراء.
الوضع العسكري حدث ولا حرج، تحرك غريب في اليمن والكونغو، وهزيمة نكراء شنعاء في 1967 أسقطت النقاب عن كل الفساد في المؤسسات الحاكمة وحتى ما يتبعها بشكل كوميدي غير مفهوم مثل التنظيم الطليعي السري.
هنا تصدق الصورة المتداولة أن عبد الناصر تولى المسئولية ومصر والسودان دولة واحدة كبيرة، ثم تركها في صورة الوادي والدلتا وصحراء شرقا وغربا دون وجود لسيناء.
ولا يهمني هنا إن كان الملايين خرجوا في جنازته أو ترجوه ألا يتنحى عن الحكم، فمشاعر الجماهير يسهل التلاعب بها وتنويمها وهي في الأعم الأغلب لا تعرف أين مصلحتها الحقيقية، وكلما تجمعت ووُجهت كلما انخفض مستوى ذكائها.
إجمالا هذا هو الطرح الناصري: مشروعات قومية طموحة تقوم على الاشتراكية يتبعها فساد في الأجهزة الحكومية وقمع للحريات وانقسام للمجتمع وربما هزائم عسكرية.. وبالتالي بحساب المكسب والخسارة أرفض هذا الطرح تماما.
وأكد رفضي ما أراه حاليا من سلوك من يصفون أنفسهم بالناصريين، وعموما لا أجد شيئا بائسا كنسبة فكرة أو فلسفة ما إلى شخص بعينه والحديث عنها كأن أخطاءها مجرد هفوات يمكن تفاديها مستقبلا، هذا إذا اعترف أحد حملتها بوجود هذه الأخطاء، فلا أعرف ماركسيًا يقول إن ماركس أخطأ في كذا، ولم أسمع بأحد الماويين ينتقد الثورة الثقافية مثلا، والناصريون ليسوا بدعا من ذلك.
فالناصريون لا يكتفون بميراث السلبيات الثقيل الذي خلفته حقبتهم الذهبية، بل أضافوا إليه الكثير من القيح تراه الآن في مواقفهم من الانقلاب الأخير وما صاحبه من مجازر، فبجانب حمدين صباحي الذي كان آخر أمل لي في الناصرية وصوتت له في الانتخابات الرئاسية، سقط النقاب عن آخرين صدمونا بآرائهم مثل الروائي بهاء طاهر، والصحفي حمدي قنديل، وغيرهما كثيرون من الأصدقاء غير المشاهير الذين لاذوا بالصمت إزاء ما يحدث، أو انتقدوا ممارسات سابقة لا تمثل عشر ما حدث أيام الناصرية التي يمجدونها.
وبالتالي في ذكرى وفاة عبد الناصر لا أملك سوى تجديد رفضي لذلك المشروع –رغم إيجابياته- وأن أترحم على من ذاق العذاب في المعتقلات باسم حماية الثورة وأن أدعو الله أن يقتص له، أما غير ذلك من شخص الرئيس السابق فلا يعنيني.


ملاحظة أخيرة: كاتب السطور قرأ كتاب "لمصر لا لعبد الناصر" لمحمد حسنين هيكل، ولا داعي لنصيحته بقراءته مجددا.

الجمعة، سبتمبر 13، 2013

مع السوريين في مدينتي

أتاح قدر سكني بمدينة السادس من أكتوبر الفرصة كي أتعامل بشكل شبه يومي مع عينات مختلفة من الإخوة السوريين المقيمين في مصر، وهم هنا في المدينة يظهرون بكثافة تفوق تلك التي كان عليها الإخوة العراقيون قبل نحو عشر سنوات، وبالتالي فإن الشرائح الممثلة متنوعة للغاية ولكنها رغم ذلك تشترك في سمات عامة.
أبرز ما يميز السوريين هنا هو اعتزازهم الكبير بانتمائهم الوطني، فأسماء جميع المحلات تعبر عن ذلك "ميدان الشام، البدر الدمشقي، سوريانا، المركز السوري لصيانة الدش.."، فضلا عن حرص بعض الشباب على حظاظة علم الاستقلال السوري وغيرها من الإشارات التي تجعلك تدرك بسهولة أنك أمام شخص من بلاد الشام.
وقد يخيل للبعض أن هذا الحرص على إبراز الهوية الوطنية يعكس نظرة قومية قُطرية ضيقة كتلك التي نعاني منها في مصر حاليا، ولكن الواقع عكس ذلك تماما، فأول ما تلاحظه عند تعاملك مع السوري بالبيع أو الشراء أو حتى الحوار الجانبي مع الجار أو الراكب المجاور أنه إنسان ودود بدرجة كبيرة يحب الكلام ويتحاشى دوما أن يبدي رأيا له حول أي شيء يخص مصر سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا حتى، فهو لا يعقد مقارنات أبدا بين المرور في سوريا والمرور في مصر مثلا، هو فقط يتحدث ويستفيض حين تسأله عن سوريا.
وهذه الصفة ميزت السوريين في مصر حتى قبل الانقلاب الأخير، أي قبل أن يتحولوا إلى هدف لحملات تحريض إعلامية خسيسة، وبالتالي لا يمكن الزعم بأن هذا السلوك المتواتر يرجع إلى جبن أو رغبة في تفادي المشاكل فحسب.
السوريون تخصصوا بشكل كبير في قطاع المطاعم، فالشاورما والمثلجات والتسالي والحلوى والألبان وأحيانا البقالة هي أبرز المجالات التي تلاحظ انتشارهم فيها، وهناك تجد فارقا عميقا بينهم وبيننا نحن المصريين.
في المطعم السوري النظافة هي السمة الأبرز، فلا يقوم زبون من مائدته إلا وتكون قد نظفت في دقيقة لاستقبال الزبون التالي، وحتى إن كانت الطاولات في الشارع فإن الهواء قد لا يلقي بورقة على الأسفلت إلا وتجد من يلتقطها من عمال المطعم في حينها.
يضاف إلى النظافة جودة الطعام نفسه ووفرة كميته وانخفاض سعره مقارنة بالوضع مع المطاعم المصرية، ناهيك عن المعاملة الرائعة التي تبدأ بطبق التحية المستنثى من الحساب شأنه في ذلك شأن السلاطات والخدمة، وصولا إلى الدعاء اللطيف بعد دفع الحساب "يعوّض عليك".
نفس آداب المعاملة تتكرر في أي مجال آخر غير المطاعم، فتشعر وكأن كل السوريين في هذه المدينة عائلة واحدة كبيرة جدا تشترك في نمط معين من التربية يجعلك لا تنزعج أبدا من جيرتهم، بل قد تفضلها على جيرة كثير من المصريين من محترفي إثارة المشاكل وافتعال المتاعب والقول الفظ.
وأمام هذا الاحتكاك المستمر بيني وبين الإخوة السوريين، أتساءل: هل هم يتقنون عملهم بشكل زائد عن الحد أم أن كثيرا منا نحن المصريين للأسف لا يحسن عمله؟ هل هم فقط مهوسون بالنظافة أم أننا لا نكترث بها ونعتبرها معيارا ثانويا؟ هل هم فقط رغم الآلام الكبيرة التي أصابتهم يجيدون التبسم في الوجه والكلمة الطيبة أم أننا نحن من يتفنن في النكد والعبوس والتعبيرات العنصرية؟

شخصيا سعيد بجوار السوريين، ولكن ما أحزنني هو هذا الفارق الكبير في تعاملاتنا وتعاملاتهم الذي أكتشفه يوما بعد آخر.