لم يكن من الغريب أن أجد نفسي في حالتي هذه، هي مرحلة انعدام الوزن، أو فقدان معيار للقياس ربما... لا لخلل في المعايير... ولا لافتقاد الأداة... ولكن هي الدنيا... كأنني جُردت من عويناتي ليلاً، فلا أرى إلا أضواء متداخلة تفتقر إلى التحديد، وأخشى التقدم أكثر، عبور الطريق يبدو أصعب مما كان، ولكن لي سلاحاً لم أحظ به من قبل... لامبالاتي! أحملها وألتف بها أخترق الجموع.
وتمر الأيام، وأنظر إلى مرآتي... كم تغيرت ملامحي! متى أحلق شعري؟ ولم أحلقه؟ يبدو مقززاً... لا يهم! ولم لا أجيد تلميع عدستيّ؟ الرؤية تبدو مشوشة... لا يهم أيضاً! ولم لا أكتب مجدداً؟ أوخُلقت لأكتب؟! عملي الكتابة، وكلماتي لا تجدي، فهي لا تستمطر السماء، ولا تغير من ناطقها شيئاً.
أعلم أن تدويناتي تتشح بالحزن منذ فترة بعيدة، ومن حين لآخر أعد بالتوقف، أو الهدنة، ولا ألبث أن أعود، كي أؤكد لنفسي أولاً استمراري في الحياة التي لا يصف مشاعر أغلبنا تجاهها سوى الملل ربما...
أنا في غاية العجب من شباب مثلي ومثله وربما مثلك أنت أيضاً، في زهر العقد الثالث... ولا نملك سوى الحنين إلى ذكريات! ما حالنا في الأربعين أو الخمسين إن كُتبت لنا الحياة أكثر؟! إن كنا نحيا الآن على الذكرى... ولقطات من "كعبول"، وصوت "عايدة الأيوبي"، ونشيد "قطتي صغيرة"، فعلام نأتنس بالحياة خلال عقدين أو أكثر؟ هي كلها أسئلة غيبية... ولكنها قابلة للطرح.
استدع معي الذاكرة، حين دخلت المسجد للمرة الأولى في حياتك وحدك... دون أب أو أخ يصحبك... فقط كنت أنت... كام كان شعور المسئولية جميلاً؟ أنت تمثل أحد المصلين، أولئك الذين اعتنقوا الإسلام وطواعية يختارون موقفاً كان للصحابة الذين سمعت وقرأت عنهم في السابق... ومع الوقت... تسمع الأذان، ومنه ينطلق خيالك نحو صوت بلال... أكان مقارباً للواقع؟
ولكن تمضي بك السنون، ومن جنة الرسالة في مهدها، والإيمان في أوله، تدخل مصيدة الفتنة... لماذا قُتل عثمان؟! تصرخ بها! ولماذا رفع معاوية سيفه في وجه عليّ؟ لا! لا تقل لي إن الاثنين على حق! ألقيت كتاب التاريخ فور انتهاء الامتحان حين ورد أن ناصر والسادات بطلان! لا يمكن أن يكتب للشيء ونقيضه الأحقية... ليكن كلاهما باطلاً... لكن الحق... حتماً لأصل واحد.
من كتب تاريخي؟ من ذلك الأفاق؟ لقد فهمت من محمد (ص) أن ثمة حقاً وباطلاً... وعليّ التمييز والفصل... وأعجب ممن يقر بأن الفئة الباغية كانت لتقتل عمار... ثم إن قُتل يرفض إدانتها! إن كنا نصرنا قوي الأمس... فما غير الخذلان ينال منا ضعيف اليوم؟
ما لقصتي مع المسجد ونموها مع التاريخ والفتنة، وهذه التدوينة؟ هي عبارة واحدة، أن أي شيء، أي شيء على الإطلاق... لا يبقى وردي الصورة... فأواصل تراجعي إلى طفولتي... حين كنت لا أرى المسلمين إلا في مهد الرسالة... دون أن يرفع أحدهم سيفه على أخيه، ودون من يأتي يكتب تاريخاً زائفاً متحايلاً تبريرياً... هكذا مع كل شيء...
أتمنى لو كنت بيطرياً من جديد... فهو حلم لم تلوثه رغبات الشهرة أو الثراء أو المكانة الاجتماعية أو أي شيء... هو حلم إنساني بحت...
وأستمع إلى "عايدة"، فمع صوتها لم أُكِّن ضغينة لأحد، هجرني أو خذلني، لا أملك سوى مشاعري في وهنها، وحاجتها لصدر يضم، وبسمة ترتسم على شفتيّ دون سبب محدد..
وأقف في الملعب أسمع سلام بلادي، لم أعد أستمع إليه في أي مكان آخر، وأنعزل عن الحاضرين، وأختزل صورة العلم في شعار مصغر على قميصي الكروي... لا على قسم شرطة يُغتصب فيه الرجال، أو على جيش أبعد أسلحته عن الشرق.
للناس عني رأيان... أولهما أنني أملك آراء معقدة، وأعادي المرأة، وأفكاري سوداوية حزينة، منزوٍ في بعض الأمور، ولا أحب الاهتمام بأحد، مغرور بعض الشيء.
الآخر أنني منطلق للحياة، أجيد النكتة والتلاعب بالألفاظ، لا أبغي مع غيري سوى الوفاق بعيداً عن تنافرنا، أهتم بمشاعر الجميع ولا أجرح أحداً، على ثقة من نفسي.
والحقيقة أنني لست معضلة، ولا أكتب هذا للترويج لشخصيتي بين قراء هذه المدونة الذين يعرفونني حقاً ولا أسعى للتحذلق أمام أي منهم... ولكن أنا نفسي لا أكترث برأي هذا أو ذاك، فقط أنقل وأشرككم معي في الضحك على المفارقة، فأنتم تعرفون عمراً.