يظن البعض أن إسرائيل بإمكانها في أي وقت أن تشن حربا على مصر، أو أنها تضع مصر على قائمة أهدافها حتى يتحقق حلم "النيل-الفرات"، وهنا لا أجد سوى طمأنة ذلك القطاع الواهم بأن إسرائيل لن تحاربنا أبدا، وهذا بالطبع بفضل السياسة "الحكيمة" للرئيس مبارك.
إسرائيل ليست بحاجة لمحاربة دولة صديقة كمصر، وقف النظام الحاكم فيها بصف تل أبيب متى احتاجت تغطية ظهرها أثناء العملية الدائرة في غزة، اءتمنته على المعبر، ولم يأل جهدا في إبقائه مغلقا، رغم الآهات والصرخات المنطلقة من الجانب الآخر، رغم نحيب الأطفال، رغم وهن العجائز، رغم عورات النساء، كان النظام المصري لعهده حافظا، ولحليفه الإسرائيلي سندا.
أوهم النظام المصري البعض عبر آلته الإعلامية التي لا تلقى صدى إلا لدى المغيبين، أو المستغيبين، أو الأنانيين، بأننا ملزمون بتطبيق اتفاقية لسنا طرفا فيها، وبأن أمننا الاستراتيجي ينتهي عند نهاية ظل العلم المصري، وبأن الآخرين يريدوننا أن نحارب! أوهم البعض أنه يحقق مصلحة الوطن، كما يحققها عبر تصدير الغاز بموجب اتفاق فاشل تجاريا، وعبر الدخول في الكويز للحفاظ على المنتج المصري، وعبر المبيدات الإسرائيلية التي تولت عميلة سرطنة الأغذية على مدار عقود.
الحقيقة أن النظام المصري نجح تماما في جعل إسرائيل تعزف عن فكرة محاربة مصر، فماذا تريد أكثر؟ غالبية الشباب قوى معطلة، نحن جميعا غارقون حتى أذنينا في المستقبل والزواج والشقة والسيارة والعمل، وهي دوامة لن تنتهي حتى آخر نفس في العمر.
نجح النظام المصري في تحقيق كافة أهداف إسرائيل، وإعفائها في الوقت ذاته من تحمل عبء إطعام 80 مليون مصري، منهم بالفعل من بلغ به اليأس إلى طلب الهجرة إليها، أو الزواح من إحدى بناتها، فهو لا يحلم بأكثر من أن يكون مواطنا إسرائيليا ولو من الدرجة الثانية باعتباره عربي، حتما سيكون أفضل حالا مما هو عليه الآن.
نجحت القيادة الرشيدة في زيادة خنوع الشعب أضعافا مضاعفة، فهو اعتاد منذ الصغر مبدأ السير بجوار الحائط والدخول فيه متى استطاع، وأن المظاهرات ليست إلا فوضى، وأن القراءة محببة ولكن يُنصح بتجنبها إن كانت في السياسة التي ينبغي تحاشي الخوض فيها.
نجحت القيادة الحكيمة في وضع إسرائيل في إطار الدولة الصديقة، التي نحتفظ معها بعلاقات طيبة، ولا نمانع الجلوس مع ممثليها تحت أية مظلة، سواء شرق أوسطية، أو متوسطية، أو عربية-إسرائيلية، أو أي شيء يضعنا نحن الاثنين في خانة واحدة.
نجح النظام أن يجعل نفسه مصر، ومصر نفسه! فمن ينتقده فهو ينتقد مصر! ومن ينتقد مصر ينتقده! وكأن هذا الوطن الأبقى أصبح مختزلا في شخص واحد، أو مجموعة أشخاص، وهو أمر لا يحدث لدى أي شعب آخر في العالم إلا بموجب تشريعات تثير استهجان العاقلين، كالخاصة بمصطفى كمال في تركيا، أو ملك تايلاند.
نجح النظام في إيهام البعض أننا لا نملك أي سلاح استراتيجي، وأن كل من يطالب بالتحرك فهو يدعو للحرب حتما! وأننا حاربنا وأدينا واجبنا وعلينا بموجب تلك الحروب –التي ليس منها إلا واحدة من أجل فلسطين لا ست كما يقولون- أن نعيش العمر الباقي على أساس إهانة وإذلال الفلسطينيين والتمنن عليهم بشهدائنا، بل وأن نطالبهم بدم شهيد النظام الذي قتل أثناء محاولة الشرطة منع أهل غزة بالقوة من الاستنجاد بأرض مصر لدى مرور غارة!
ولهذا الشهيد مفارقة، سُميت باسمه مدرسة، وشارع، ومسجد، وربما يُكتب عنه درس في كتاب القراءة المدرسي، وكلها أشياء لم تحدث أعشارها لشهداء الوطن الآخرين الذين رحلوا بنيران إسرائيلية "صديقة" في ذات العام.
نجح النظام أيضا في إيهامنا بخطابه الشاب الواعد أنه آن لمصر ألا تهتم إلا بما يحقق مصلحتها، فعدونا –عفوا- الذي كان عدونا لم يتقدم إلا باهتمامه بذاته والتنصل من الآخرين من حوله، وهي نظرة بعيدا عن كونها مغلوطة بالمنطق ذاته وبشكل عملي، فإنها غير إنسانية أو حتى حيوانية! فما استحق أن يولد من عاش لنفسه!
نجح النظام أن يقنعنا أن فنزويلا مثلا التي طردت سفير إسرائيل لديها تعتبر دولة فلسطينية أكثر من الفلسطينيين، وأن مصر لا يمكنها فعل المثل على الرغم من كونها معنية أكثر بالأمر، فإنسانية شافيز ليست محل إعجاب، ولا تستحق وقفة، فهي من وجهة نظر النظام في مصر مجرد حلقة في سلسلة تعديه على سياسات الولايات المتحدة، والمتاجرة بحربه على الإمبريالية.
نجح النظام المصري أن يوهم الناس أن العمالة الآن أصبحت لدول يفترض أن تكون صديقة وحليفة بحكم الجيرة أو العمق الاستراتيجي أو التاريخ مثل سوريا وإيران، وأقنعهم أن عميل طهران أخطر من عميل إسرائيل، وأن عميل دمشق ألعن من عميل الولايات المتحدة، وأن حماس عميلة للاثنين! هل يمكنني اعتبار فتح عميلة للقاهرة؟
نجح أيضا في اللعب على الوتر المذهبي، فنحن في مصر وغيرها مسلمون ومسيحيون ولا مشاكل، فكيف إن كان من بين المسلمين السني والشيعي؟ هل الاختلاف في المذهب أعمق من الاختلاف في الدين؟ فإن كان لا مشكلة في الخلاف في الدين؟ فما بال الخلاف في المذهب! ولم يستخدم الخلاف كحل سحري لإلصاق الاتهام بحزب الله مثلا؟ لقد نجح النظام أن يجعل الدعاء لأي فصيل مقاوم مختلف في أي شيء مسألة شرعية تحتاج لفتوى من الأزهر! هل يجوز الدعاء للروافض ولاد الـ*** في حربهم مع إسرائيل؟ هكذا أصبح كثيرون يفكرون.
نجح النظام في اجتذاب العديد من حملة بطاقات العضوية بالحزب الوطني، وبدلا من أن يمزقوها، صاروا يدافعون عما لا يؤمنون به، يدركون من أعماقهم أنهم في إطار فاسد، ولكن يسايرون الدورة دون وقفة مع النفس تحسم كل شيء، دون إيقاظ للضمير من سباته، إن لم يكونوا قتلوه.
نجح النظام أخيرا في ملء قلبي بالكراهية والبغضاء تجاه كل رموزه، في تمني اليوم الذي تغرب فيه "شمسه"، وتُخرب فيه "إنجازاته"، وينقشع "استقراره"، ويزول "رخاؤه".