شعور كبير بالمرارة ساد بيننا نحن من ننتمي عمريا لمرحلة الشباب حين لاحظنا أن الغالبية العظمى ممن رضوا بالتصويت على دستور الدم هم من الكبار في السن. شخصيا انسقت مع الموجة التي كالت لذلك الجيل الاتهامات بأنه جيل خانع قبل الظلم ورضي به سواء في الستينيات أو ما تلاها من فترات، ولكن وقفة بسيطة مع النفس تجعلني أرى الوضع بشيء من الاختلاف.
الأمر ليس بتلك السذاجة، لا يوجد جيل يولد خانعا بالكامل، فإذا كنا نقول إن من خرجوا للتصويت من ذوي الشعر الأبيض هم نتاج ثقافة ما بعد 1952 فعلينا أن نلقي باللائمة على الجيل الذي كان شابا وقت الانقلاب الأول ذاته.
ولعلنا سندهش حين ندرك حقيقة أن جيلا كان الكثيرون من شبابه أعضاء في جمعيات سرية أو تنظيمات إسلامية أو حتى أحزاب ليبرالية لم يستطع مقاومة الانقلاب وسياساته وقتها، هناك من خُدع فيها ولكنه سريعا ما وجد نفسه في السجن مع الاستفاقة.
أما الجيل الذي يليه فقد وجد كثيرون منه أيضا أنفسهم في السجون خلال دفعة الستينيات، وما أريد قوله هنا أن أمام من خرجوا اليوم للتأييد والتهليل وتصدر المشهد فإن هناك مثلهم قضوا في السجون وتعرضوا للتعذيب بجانب من هاجر وترك البلاد، أما من خرج من وراء القضبان فقد حاول فعل شيء في السبعينيات ولكنه لم يفلح.. إلا أنه في النهاية حاول.. وليس مطلوبا من أي منا غير المحاولة.
ومع السبعينيات والثمانينيات جاءت محاولات أخرى في الجامعات بل وفي الشوارع أحيانا كثيرة، ثم جاءت التسعينيات التي تصلح لأن تكون فترة ركود شبيهة بالستينيات، وعلا فيها صوت محاربة الإرهاب.. إلا أن ذلك لم يمنع من وجود ومضات من البحث عن الحرية والتغيير انتهت بمحاكمات عسكرية لأصحابها.
جيلنا نحن الذي نقول إنه جيل الثورة سيكون عرضة للسخرية بنفس النظرة القاصرة مستقبلا.. فإن كنا نحكم على جيل الستينيات مثلا بأنه خانع وذليل متجاهلين ما تعرض له كل من حاول منه تحقيق شيء أفضل، فنحن الجيل الذي ظن التقاء مصلحته مع العسكر في منع توريث الحكم لجمال مبارك قد حقق ثورة حقيقية فتفرغ لتفاخر محدثي النعمة! وهو جيل تخلى كثيرا عن الثورة لصراعات ضيقة وكيد متبادل بين الفصائل، بل وقبل الوقوف مع أعدائه أمام خصومه السياسيين الذين هم شركاء في الميدان، وتخلى عن الإنسانية كثيرا جدا بتبريرات مضحكة، وخذل الحراك ظنا أن بيده عصا ذهبية لا ينبغي أن يستخدمها مع من لا يستحق، ثم حين أدرك الكارثة ألقى باللائمة على من سبقه وأراح ضميره!
بل إن هذا الجيل الحالي احترف بشكل حقيقي البطولة المجانية، ولا أقصد هنا الشهداء والمصابين والمعتقلين فهؤلاء تيجان الرؤوس، بل أعني أولئك النشطاء وأشباههم من غير المعروفين الذين لم يعتقل منهم أحد ولم يكن لأي منهم تجرؤ سياسي قبل إسقاط حسني مبارك.. هؤلاء لم نسمع منهم سوى أصوات عالية وقت الرفاه وأتحفونا بصمت مطبق أوقات الشدائد، وإنكار مذهل لمجرد إمكانية الوقوع في خطأ ببعض الحسابات، وفي النهاية يتحدثون بتنظير فارغ عن الثورة وإلى أين ذهبت وكيف ضاعت ويتبادلون فيما بينهم الاتهمامات.
المشكلة أن حصاد الأجيال السابقة في الستينيات والسبعينيات ما كان ليختلف كثيرا عن سنتين ونصف السنة من الربيع السياسي -عشناها معا- لو كانت أيام الماضي قد عرفت ثورة الاتصالات الحالية، فالإنسان هو الإنسان وإن اختلفت الأسماء.. وما ندري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.