منذ
أن كتبت التدوينة الماضية عن خواطري وسط أنباء انتشار فيروس كورونا وأنا
أتأرجح بين الهواجس، فتارة يعود إليّ الشعور بأن المبالغة طاغية مفضوحة، وأخرى
يذهب.
عاد
الشعور بالمبالغة وأنا أتابع ردود الأفعال ذات الصبغة الاشتراكية الحديثة ضد أي
دعوة للعودة إلى العمل ودفع الإنتاج حتى لا تفلس قطاعات كاملة ويتشرد العاملون
بها. صحيح أن المستفز في الأمر هو مجيء هذه الدعوات من جانب مليارديرات يمثلون
أقطاب الرأسمالية في بلادنا، وكلنا نعلم أن بإمكانهم تحمل خسائر لفترة طويلة ولكن
القاعدة التي يعمل بها السوق هي أن تأتي عمليات التشغيل بإيرادات تغطي على الأقل
نفقاتها ما لم يكن هناك هامش للربح، ومنذ أنه لا توجد عمليات تشغيل فلن تكون هناك
إيرادات، وبالتالي لن يخالف أحد كتاب الرأسمالية المقدس ويلجأ إلى السحب من أصوله
للاستمرار في هذا الوضع.
قوبلت
هذه الدعوات عموما بغضب عارم وباتهامات لأصحاب الأعمال بالجشع، ولكن رد الفعل هذا
تغاضى عن الآلاف –وربما الملايين- من الأعمال الصغيرة والمتوسطة التي سيفلس
أصحابها فعليا وسيشرد العاملون بها لو استمر هذا الوضع، فالأمر هنا لا يتعلق
بملياردير لديه من الأصول والسيولة ما يسمح بالاستمرار في دفع الرواتب... بل
بأعمال تعتمد على دورة قصيرة لرأس المال.
على
كل حال لا أحب الكلام في الاقتصاد، ولا أحسنه أصلا، ولكن رفضي لتحويله إلى كهنوت
لا ينطق فيه إلا المتخصصون دفعني إلى كتابة هذا، والأهم أن رد الفعل الهيستيري
هو ما استدعى لدي مشاعر الاستياء من المبالغة.
للأسف
دأب الاشتراكيون، وبالذات المعاصرون منهم، على انتهاج الهيستريا في رد الفعل دون ترك أي مساحة لرأي مخالف، أو مناقشة
جادة هادئة... ينتهجون هذا الآن مع الدعوات للعودة إلى العمل حتى ولو كانت
باحتياطات صحية تتضمن عزل كبار السن وذوي الأمراض المزمنة، فهذا هو ما اعتادوا
عليه من خطاب يلقى هوى لدى الفارغين من رواد شبكات التواصل الاجتماعي.
لعلك
تذكر جيدا كيف يقابلون على تويتر أو فيسبوك أي تشكيك في صحة الاعتراف بالمثلية
الجنسية كأمر طبيعي، وينتابهم هياج كامل إذا وصف أحدُ المثليين بأنهم شواذ مثلا أو
أبدى امتعاضه من الترويج لأنشطتهم.
هذه الهيستريا تعود الآن للسبب الاقتصادي الذي قلناه، وتعود أيضا في صورة التعامل
مع فيروس كورونا بصيغته الجديدة كوفيد 19، فأي شكوى من الشعور بالمبالغة في
الإجراءات يتبعه هياج تام في ردود الفعل واتهامات بتبني نظرية المؤامرة.
نحن
العرب عادة نحب نظرية المؤامرة لأن بها الكثير من التبرير لواقعنا المنحط، ولكن
عدم تبنيها لا يعني الاستعاذة بالله منها أو ترك أي تفكير قد يصنف تحت خانتها كما
يحدث للأسف.
بعض
منظّري المؤامرة في الغرب تحدثوا طويلا عن إمكانية عدم وجود الفيروس أصلا، وأن
الأمر كله ليس سوى تسرع في التشخيص اعتمادا على الأعراض في ظل عدم دقة نتائج مسحة
البي سي آر المعممة، وهذه الأعراض تشابه للأسف أعراض الإنفلونزا العادية، وبالتالي
لا يبدو التشخيص دوما صحيحا.
بل
ذهبوا إلى إمكانية التلاعب في الأرقام باعتبار أننا لا نمتلك متوسط الوفيات اليومي
في إيطاليا قبل تفشي الفيروس أصلا، فهل يمكن أن يكون العدد قد زاد بواقع 700 وفاة
جديدة عن المتوسط في بعض أيام الذروة؟! لا إجابة بالطبع وبخاصة في ظل ما تردد حول
إيقاف أغلب العيادات المتابعة لمرضى القلب مثلا لأعمالها... فلا صوت يعلو فوق صوت
المعركة الجديدة حتى ولو كانت هذه الإجراءات ستسفر عن سقوط ضحايا جراء تدهور
حالاتهم من أمراضهم القديمة التي لم تعد تجد متابعة طبية... فهم في النهاية سيتم
تشخيصهم كضحايا للفيروس، وسيعزى التدهور إلى انخفاض مناعتهم نتيجة العدوى الرائجة،
التي لم تملأ بالمصابين -إلى الآن- ولو صالة رياضية واحدة من الصالات التي تم
تجهيزها بالأسرّة في أوروبا.
هذا
ما يقوله رواد المؤامرة الذين ذهبوا إلى أن انتشار أبراج دعم اتصالات الجيل الخامس
"فايف جي" له دور في تقليل امتصاص الجسم للأوكسجين، ما يجعل خلايا
الإنسان تفرز مادة مسممة يتم تشخيصها لاحقا على أنها فيروس كوفيد 19، أمر لقي
تجاوبا مع بعض من شككوا في تأثيرات هذه الأبراج على الصحة لدرجة أن المتحمسين منهم
سارعوا إلى إضرام النار فيها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
وقصة
الجيل الخامس تلك تأخذنا إلى الهيستريا التي تعاملت بها منصات التواصل ومن بينها
يوتيوب بحظر كل محتوى يتضمن ربطا بين الفيروس وتقنية الاتصالات الجديدة ذات
التردادات العالية، هيستريا تكاد ترفع شعار المثل المصري القائل "مافيش دخان
من غير نار".
ولا
يخفى على أحد أن كل هذه المنصات منتفعة من الفايف جي، فحتى لو ثبت عدم وجود ربط
بين الفيروس والجيل الخامس، فإن هناك انطباعا يتخلف بوجود ضرر بالغ على الصحة
العامة للسكان مع انتشار هذه الشبكات التي ستسرع من الإنترنت إلى درجة تسمح لاحقا
بالتحكم الإلكتروني في الأفراد، ولتكن البداية عن طريق العملة الرقمية الموحدة
التي ستحل محل النقد إلى الأبد.
ولعل
التحذيرات المتوالية من منظمة الصحة العالمية من خطورة تداول النقد ونقله للفيروس
والتشجيع على التعامل بالبطاقات أو الدفع الرقمي تسير في هذا الاتجاه، هذا ما
يؤكده رواد المؤامرة.
وحين
تأتي لحظة ظهور المصل بعد تمويل أبحاثه من قبل القائمين والمنتفعين من الفايف جي،
سيكون هناك زرع لشريحة متناهية الصغر في دم كل واحد منا بعد أن نتعرض لتطعيم إجباري، فيصبح الذكاء
الاصطناعي متحكما فينا، هكذا تقول الرواية التآمرية.
الرواية
تبدو مرعبة وأورويلية إلى أبعد درجة، ولا أميل شخصيا إلى تصديقها، لكن الهلع
الهيستيري الذي أصاب المنتفعين يدفعني إلى التساؤل ما إذا كان تشويش رواد المؤامرة
قد كشف ولو بدون قصد عن بعض مخاطر مساعيهم!
هذه
الهيستريا أتحسس معها دوما مسدسي، فهي نفسها التي اعتدناها في مواقف عدة.
أكرر أنني لم أصدق ما سمعت، ولكن أغرب شيء هو أن من دعونا دوما إلى التعامل بتفكير
نقدي مع كل شيء، يتراجعون الآن ويحاربون كل ما يبدو رواية مغايرة لتلك السائدة.
هذا
لا يعني صحة الرواية المغايرة بالضرورة، ولكنه قد يبرهن بشكل ما على عدم دقة
الرواية السائدة، وهو ما خلف لدي يقينا أن كل ما يحدث ليس كما يقدّم... عملت في
صناعة الأخبار وأدرك هذا جيدا.
أطلت
الكلام بلا طائل، وكتبت هذه الأفكار والهواجس على مدار يومين لأن عزيمتي خائرة
للغاية... لم أقبل بالرواية التآمرية، ولكن لم يعد بإمكاني القبول بالرواية
السائدة بعد ذلك.