أريد أن يكون هذا هو الجزء الأخير، وسأحاول فيه الإجمال أكثر من التفصيل، فالبلاغة في الإيجاز وخير الكلام ما قل ودل.
حسنا.. يبدو أننا لم نترك من معالم باريس للزيارة سوى القليل..أعتقد أننا زرنا المعالم الأشهر كقوس النصر وكنيسة نوتردام وبرج إيفل والبانتيون ومتحف اللوفر وسرنا ونهر السين، وتسكعنا في الشانزليزيه والحي اللاتيني وحديقة لوكمسبورج وشارع سان جيرمان، وأفلتت منا يورو ديزني.
يمكنني العودة للانطباعات من جديد، لأقول إن باريس مدينة سياحية إلى المدى الأبعد، وفي أكثر من مناسبة أستوقف شخصا لأسأله عن الاتجاه بالفرنسية فينتظر حتى أفرغ ثم يقول بالإنجليزية "أنا لا أعرف أي شيء بالفرنسية".
بل وذات مرة تسقط مني تذكرة مترو فأجد من يلاحقني ويقول لي بالإنجليزية أيضا "لقد سقطت منك تذكرة!"، بل وحتى من يتحدثون الفرنسية.. فوجئت مرتين بمن يسألني داخل المترو عن محطة معينة.. وكان بالغ فخري حين نجحت في وصف محطة لإحدى السيدات التي تبدو من خارج العاصمة أو ربما لم تستوعب بعد الشبكة العملاقة.
يمكنني القول أن الفرنسية قد تكون آخر ما يحتاجه من يزور باريس، فجميع العاملين في المقاهي يتحدثون الإنجليزية، أو على الأقل ما يكفي منها للتعامل، وهناك من يجيدونها أيضا من العاملين في شبابيك المترو ولكن على سبيل الاستثناء وليس القاعدة.
باريس مليئة بالأجانب حتى في شهر نوفمبر الذي يأتي بعد نهاية موسم السياحة الصيفي، فدائما تسمع محادثات جانبية في المترو أو في المتاجر أو في الشارع، أي بعيدا عن المزارات السياحية، بلغات مثل الإيطالية والإسبانية والبرتغالية وغيرها.
بدت لي العولمة في أقصى صورها حين سألتني سيدة في المترو عن محطة ما، فأخبرتها أني لا أجيد الوصف بالفرنسية فأتى أحدهم ليساعدني فسأل هل تعرف الإسبانية فأجبت بنعم، فترجم لي من لغتها إلى لغتنا الوسيطة لأتعرف عليه لاحقا وأكتشف أنه برازيلي أي يتحدث البرتغالية.
ولتتخيل أن برازيليا لغته البرتغالية يقابل مصريا لغته العربية أثناء وجودهما في بلد الفرنسية، فيتحدثان بالإسبانية! ضحكت بسبب هذا المشهد.
في اللوفر وجدت قسما كاملا من الأقسام الثلاثة خصص نحو 90% من أجزائه أو أقل قليلا للمصريات، وهو شيء يبعث على الحيرة حين تجد مومياء وأغراضا لا نهائية، بل ونحو خمسة أو ستة تماثيل لأبي الهول طول الواحد منها قرابة خمسة أمتار.
وتزاد الحيرة حين تجد من كل حضارة آثارا، فها هي أغراض للفينيقيين، ومقابر للرومان، وأسود الفرس، وثيران الآشوريين المجنحة الملصقة بجدران عملاقة لا تعرف كيف خرجت من بلادها لتأتي إلى فرنسا! هذا بخلاف اللوحات الفنية كالموناليزا التي لا يمكن لأي شخص الاقتراب منها إلا بمسافة معينة.
لا أعرف حقيقة هل خرجت هذه القطع كهدايا مثل المسلة الموجودة في ميدان الكونكورد أم أنها خرجت خلسة في حين يستحيل ألا يشاهد أحد هذه الأحجام العملاقة أثناء خروجها! ربما لو منحت الفرصة لتسمية اللوفر اسما آخر لقلت "متحف المسروقات".
على الرغم من الوجود العربي الكبير في فرنسا، فإنك لا تجد جهاز ترجمة آلية إلى العربية أثناء دخولك إلى قصر فرساي، وهذا شيء صادم لأن أجهزة الترجمة متاحة في عشر لغات من بينها الكورية!! تلك اللغة التي يتحدثها 78 مليون نسمة مقابل 300 مليون للعربية!! الآن أدركت خسارتي الفادحة حين سخرت من تعلم الكورية والتأثر بالمسلسلات الدرامية التي أنتجتها سيول.
في الشانزليزيه تبدو أغلب المحال لـ"الفرجة" نظرا لارتفاع الأسعار بجانب أسلوب العرض الاستعراضي سواء لمجوهرات "كارتييه" أو معارض سيارات "رينو" و"بيجو" و"مرسيدس" و"تويوتا"، ورينو وبيجو تحديدا تسيطران على سوق السيارات الفرنسية تتبعهما سيتروين ومرسيدس.
ويلاحظ في ذلك الشارع انتشار الشحاذين من المسلمين، فمنذ أن وطأته بقدمي لأول مرة جاءتنا فتاة سألتنا إن كنا نعرف الإنجليزية أم لا لنتعلم أن نجيب بالنفي بعد ذلك، حيث أشهرت لنا ورقة كتب عليها "أنا من البوسنة ولاجئة هنا ولا أملك مالا.. ساعدني".
لست بحاجة للقول أن ملامح الفتاة لم تكن لها أية علاقة بالبوسنة على الإطلاق، فهي أقرب لمنطقة شرق-وسط آسيا، ولكن يبدو أن التسول وأحيانا الاحتيال معتاد في البلدان السياحية، وهو ما تأكد حين حاول أحدهم لعب حيلة "الخاتم الملقى" معنا بجوار مجرى السين قرب جزيرة إيل دي لاسيتيه التي تحمل نوتردام.
اللعبة تقوم على أنه يلقي خاتما وكأنه وجده للتو، فيسألك هل هذا لك؟ فتقول لا! فيلح عليك أن تأخذه لأنه غير متزوج وغير مرتبط عاطفيا، وبعدها يطالبك ببعض من المال كي يأكل! وحين حاولت كشف هذه اللعبة لسائح آخر بعبارة "سيدي.. لا" التي فهم منها ما أريد سريعا..، خرج إليّ من يريد الشجار معي، قبل أن أخاطبه بحسم وأبتعد.
هناك سبيل آخر للكسب لا أحب أن أسميه تسولا، هم شباب رأيتهم في الشانزليزيه يحملون معهم مشغل موسيقى كالهيب هوب ويقدمون فقرات راقصة بمهارة فائقة مقابل بعض المال في القبعة، أو فقرة موسيقية في المترو مع الدفع إن راقت لك.
وبمناسبة الفن، حين يمر بك المترو على جدران لا نهائية في الشوارع تشاهدها من النافذة، لا تجد واحدة منها سلمت من كتابات سبراي ملفتة وكأن فن الجرافيتي هو هواية كل الباريسيين.
المجتمع الفرنسي يبدو في بعض الأحيان متقبلا لفكرة اختلاط الأعراق، وهو ما شاهدته مرة لفتاة شقراء وشاب أسمر البشرة، والعكس تماما في مشهد آخر، ولكن هذا يبدو أكثر قبولا لدى الأجيال الشابة.
أمام نوتردام يوجد بعض ما يعبر عن ثقافة القبول تلك، فهناك شبان لا تعرف بلدانهم يحملون لافتات كتب عليها بالإنجليزية "أحضان مجانية" ويعانقون كل من يريد.. وبالطبع "مجانا".
ولكن الصورة ليست ناصعة هكذا، البعض كان يخاف الجلوس بجوار زوجتي المحجبة، والنظرات تكون قاتلة أحيانا، ولكن ذلك في طريقه للاندثار مع الكم الهائل من الأفارقة والآسيويين المتواجدين بكل مكان في فرنسا.