ربما يكون من أكبر الأخطاء التي تدل على ضحالة صاحبها أو قصر نظره هو الإسراع في محاولة تحليل الأحداث ولكنني سأخوض هذه المغامرة مع استبعاد وصف "التحليل" والاكتفاء بـ"التعليق" الذي يبدو كلمة أخف وطأة بكثير.
ما يحدث من 25 يناير وحتى الساعة التي أكتب فيها الآن كان حلما بعيدا عن مخيلة غالبيتنا منذ فترة، ولعل فقدان الأمل والسكوت والسلبية كان ملهما لبعض السيناريوهات شديدة الكآبة وفي الوقت نفسه شديدة القابلية للحدوث مثل أحداث رواية "يوتوبيا" للكاتب أحمد خالد توفيق.
ولم تُبن أحداث تلك الرواية أو غيرها من التصورات على أي نوع من الاحتجاجات واسعة النطاق في الشارع، فكان التخيل يُنسج دائما على استسلام تام من جانب الشعب واستمرار في التصعيد من أعمال النهب والقمع من جانب الفئة الحاكمة حتى يصل الوضع إلى كارثة محققة.
وبالتالي فإن خروج آلاف الشباب إلى الشوارع في "دفعة أولى" استجابة لدعوة عبر الإنترنت لا يعني إلا أن السيناريو الأسود بات بعيدا وأن حسابات النظام ارتبكت كثيرا عما كانت عليه وقت تزوير الانتخابات النيابية الأخيرة التي كان يتم الحديث خلالها عن "حزب الأغلبية" والذي لم يخرج منه ولو شخص واحد يرفع شعارا له.
المكاسب كثيرة من وراء اليومين الماضيين فقط.. أولها كسر حاجز الخوف واستبعاد سيناريو السير بجوار الحائط والدخول فيه إن أمكن، وثانيها أن من خرجوا إلى الشارع هو مسلمون ومسيحيون من اليمين واليسار والتيارات الإسلامية بما فيها بعض السلفيين وهو ما يعتبر انتصارا حقيقيا على خطاب طاعة ولي الأمر مهما فعل.
أقف هنا لأستمتع بلحظة الإجماع النادرة هذه.. فإن لها نسيما أود أن يملأ رئتيّ عوضا عن التلوث الفكري الذي كان كان منتشرا حاملا معه عبارة "لا فائدة".
مكسب ثالث أود تنقيته من الشوائب الشخصية كأن أشعر بالشماتة تجاه كل من سخر يوما من فكرة التظاهر سواء أيام الجامعة أو حتى التوقيع على بيان التغيير.. أو كل من اكتفى بالسخرية والنقد أو كل من لم يكن له رأي في السياسة وكان يفضل عدم الخوض فيها والبقاء على الحياد السلبي.. فالآن أقول لا شماتة بل لنفرح ببعضنا.. فكثير من هؤلاء الآن يرفعون الأعلام ويفكرون حقا بالنزول ويتابعون الأخبار أولا بأول.
مكسب رابع.. النضال عبر الفيسبوك وتويتر يأتي بنتائج حتى في المجتمعات ذات التعليم المنخفض، والتكنولوجيا وسيلة جبارة لخرق التعتيم الإعلامي وحتى تواطؤ المؤسسات.
مكسب خامس وأحسبه الأهم هو أن التوريث لم يعد ممكنا.. أعتقد الآن أنه حتى لو هدأت الأوضاع –وإن كنت أستبعد ذلك- فإن التوريث لن يحدث.. يدرك النظام جيدا أن خروج الآلاف من الشباب قبل موعد تسمية مرشح الحزب الحاكم بأشهر يدل على إمكانية خروج الملايين حال ما جاء الإعلان عكس التيار تماما.
بل وحتى إن بقي المرشح الرئيس الحالي فإن هذا لن يرضي أحدا وسيكون سببا في اندلاع احتجاجات أشد وطأة من الحالية بالنظر إلى أن أحد المطالب الرئيسية هو عدم ترشح مبارك الأب لولاية جديدة.
لا ننسى أن النظام بات مرتعشا منذ إسقاط ابن علي في تونس وخرجت صحفه بعناوين عن توفير فرص عمل وإصلاحات اقتصادية مع استمرار تجاهل السياسة، والمشكلة بالنسبة له أن التجربة التونسية أحرقت جميع الأوراق الممكنة أمامه.
في مصر ثمة سقف أعلى من الحرية الشكلية كبرامج التوك شو المنتشرة والتي أجمع غالبية ضيوفها على ضرورة إقالة حكومة أحمد نظيف الحالية.. وبالتالي بات هذا هو الحل المرحلي الذي سيأمل النظام أن يكون نهائيا.
ولكن المخيف حقا بالنسبة للنظام هو أن إقالة الحكومة كان قرارا أقدم عليه ابن علي في تونس ولم يؤجل رحيله الذي جاء بعدها بساعات.. كما أن حالة الطوارئ معلنة أصلا وبالتالي لا يوجد أي إجراء أمني شكلي يمكن اتخاذه باستثناء حظر التجوال ربما.
بعبارة أخرى، الكروت التي يملكها النظام في يده وهي قليلة سبق وألقاها ابن علي في تونس ولم تجد نفعا.. والمشكلة أن النظام في القاهرة يدرك أنه لا مفر من الإقدام عليها إذ لا سبيل سوى مزيد من التشدد الأمني مع تلبية لبعض المطالب.. وكل هذا لن يبدو أنه يقابل بترحاب وهذه هي الورطة الحقيقية والكابوس الذي يؤرقه.
أضف إلى ذلك أن كافة الحكام العرب بمن فيهم مبارك نفسه قالوا إنهم يحترمون خيارات التوانسة، وحتى يحافظوا على ما تبقى من صورهم أمام شعوبهم فسيحترمون اختيارات المصريين تماما مثلما طرأ تغير على الخطاب الغربي في التعامل مع احتجاجات مصر.
نقطة أخيرة لا أرغب أن تفوتني وهي أنه لا يعقل أن مدينة مثل السويس تبعد عن القاهرة نحو 130 كيلومترا فقط تبدو وكأنها في قارة أخرى حين تتعرض لمجزرة من جانب الأمن.. إنها صورة بشعة أخرى للمركزية التي تجعل كل شيء في العاصمة ويبقي سواها في الظل.