بركان من الأفكار والخواطر انفجر في ذهني وأنا أتابع ما حدث ويحدث في تونس خاصة بعد الإيقاع السريع ليوم الجمعة الذي شهد إقالة الحكومة ثم إعلان الطوارئ ففرار الرئيس وسط مظاهرات شعبية حاشدة كانت ذروتها رشق مقر وزارة الداخلية بالحجارة في قلب العاصمة.
في البادئ علينا الإقرار جميعا بأن التوانسة أبطال مهما كانت النتائج التي ستسفر عنها الأيام المقبلة حتى لو كانت ستشمل سرقة أو احتواء الثورة من قبل بعض رموز النظام السابق الذين ظهروا في الكادر وقت إعلان محمد الغنوشي تسلمه السلطة مؤقتا.
شاعر تونس أبو القاسم الشابي هو وحده صاحب البيت الذي ظلل كل الآمال الثورية في البلدان الناطقة بالعربية، وبالتالي كان من حق التاريخ أولا أن تتصدر بلاده جيرانها وتفوز بشرف السبق بأول انتفاضة شعبية تقصي ديكتاتور من طراز بن علي.
كنا نظن في الماضي أن الثورة على الحكام "رجس من عمل الفرس" بعد أن اقتصرت تجارب الشرق الأوسط في هذا المضمار على إسقاط شاه إيران محمد رضا بهلوي منذ 32 عاما حين أقلعت طائرته بحثا عن جهة تستقبله، إلا أن تكرار المشهد مع بن علي الليلة الماضية بدد كثيرا من اليأس.
تونس أسدت جميلا للعالم بأسره وللعرب بوجه خاص كونها أثبتت أن هذه النظم الديكتاتورية "أوهن من بيت العنكبوت"، فحتى لو كان الرئيس مسئولا أمنيا سابقا يشغل منصب وزير الداخلية فإن هذا لن يعصمه أبدا من غضب الشعب فقط إذا "أراد الحياة".
كسر عقدين من الزمان على رأس السلطة لا يعني أن هذا الحاكم قد بات ظل الله على الأرض، ولا يعني أن ثمة شعوبا "مسالمة" ترضى بالأمر الواقع وأخرى "جسورة" ترفض الظلم.. فقط بعض التفاصيل تختلف بين هنا وهناك ولكن يبقى الجميع قادرا على هدم الأصنام التي طالما عُبدت لأنها تتضرر –بطبيعتها- من ضربات الفأس.
رحيل بن علي بهذه الطريقة يؤكد البعد المسرحي للخطابات الشعبية التي يلقيها الحكام وسط عواصف التصفيق وهتافات الفداء بالروح وبالدم، ولعل ذلك أحد أسباب طريقة تعامل وسائل الإعلام العربية الرسمية مع الوضع في تونس الذي يبدو نموذجا قابلا للتكرار.
لا مجال الآن للحديث عن خطاب "طاعة ولي الأمر" مهما فعل أو أن فلانا هو "الحاكم الشرعي" أو إصدار فتوى بإهدار دم من يدعو للخروج على النظام، أو انتقاد فكرة الاعتصامات وتحريم التظاهر، فقد اتضح الآن أن مرددي هذه الأفكار هم فئة من أعداء الشعب ينتفعون ببقاء الأوضاع الحالية لأن من خلالها عرفوا الفضائيات وكونوا الثروات وصار لهم مريدون يقدسونهم وباتوا يشار إليهم بالبنان.
لم يكن غريبا أن يجد ابن علي مقصده لدى نفس النظام الذي استقبل في السابق عيدي أمين، فهذه النظم جميعا لا يوجد لها أي نوع من الشرعية وأرى أن أغلب رؤوسها سيعانون من الآن فصاعدا كوابيس يرون أنفسهم فيها يهرولون على سلالم الطائرات المغادرة.
شخصيا شعرت بأمل كبير في 2011 بعد ثورة تونس، فالعام الذي بدأ كأسوأ ما يكون بحادث كنيسة القديسين ها هو يبتسم للمرة الأولى ويجلب حدثا تاريخيا يعيد الأمل إلى الشعوب التي عانت طويلا تحت نير القمع والخوف.
تهانينا يا أبطال تونس.. أنتم السابقون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق