الثلاثاء، فبراير 28، 2012

طاولات



اعتدت المرور على ذلك المقهى الكائن بوسط العاصمة حيث تجلس أصناف مختلفة من البشر تدور كلها في فلك واحد لا أدري له عنوانا.. ربما هو "التمثيل" وقد يكون أي شيء آخر.

حول طاولة تلتف حلقة من ممارسي الصحافة الذين يبدون كديناصورات دخلت حديقة حيوان طبيعية في أيامنا هذه.. هم في زمان غير زمانهم، وعلى أرض لا تحتمل خطاهم، فمازالوا لا يقتنعون إلا بالمطبوعات ويلهثون وراءها حيث كانت ولا يدركون أنها قد لا تستمر طويلا وسيرحلون معها طالما بقوا كما هم دون أدنى درجة من التطور.
يمكنك التعرف عليهم للوهلة الأولى، فكلهم يرتدون قمصانا وسراويل وأحذية كلاسيكية، ويتأبط الواحد منهم حافظة أوراق شفافة تحوي أقلاما وحزمة من ورق الدشت الرديء وأجندة لأرقام هواتف المصادر، وربما شطيرة أو أيًا من المخبوزات التي تحتمل البقاء فترة من الزمن. عادة يحتسون الشاي وربما يضاف إليه الحليب، أو الحلبة أو غيرها من المشروبات الساخنة الكلاسيكية كملابسهم تماما.
أحاديثهم؟ تدور في فلك ثلاثة أو أربعة موضوعات على الأكثر، فمنهم من لا يسأم إعادة سرد فرص العمل التي مرت عليه سواء كانت في فضائيات أو غيرها ولكنه رفضها حفظا لقناعاته، ومنهم من يتحدث دوما عن اقتراب التعيين وتحقيق حلم الإمساك ببطاقة عضوية النقابة بعد سنوات من العبودية ينتظر أن يتبعها بعبور إلى الخليج، وآخر يتحدث ليلا ونهارا عن المعايير "المهنية" للصحافة والمستوى المتردي الذي وصل إليه الممارسون.

في ركن منزوٍ من المقهى أعرف طاولة أخرى يستدير حولها "الرفاق"، ولا يوجد ما يستدعي الدهشة إن رأيت كل الصور النمطية التي رسمها الكتاب الساخرون ماثلة أمامك حين تبصرهم. فذاك الشاب النحيف طويل الشعر الذي يغطي رأسه بالبيريه وترك لحيته لا طويلة ولا قصيرة يبدو تماما كمن تجمعوا في الحي اللاتيني بباريس في ستينيات القرن الماضي وتحدثوا عن ضرورة الثورة على الأضاع القائمة وقتها.
تجاوره فتاة تدخن ولا تستحي من إطلاق أقذع السباب على الإسلاميين تارة والليبراليين أخرى بل وحتى على مجموعة أخرى من رفاق اليسار اختلفت مع تيارها حول درجة النقاء الثوري، ولا تندهش أبدا إذا وجدتها تغطي شعرها بحجاب شائع النمط.
في نفس الحلقة تجد شابا دمث الخلق يكتفي بالابتسام من حين لآخر عند سماع تعليقات استنكارية للنصوص الدينية مثلا، فهو يمثل الواجهة الجاذبة للغرباء التي تشيع أن الدائرة تحتمل الاختلاف وأن لكل رأيه وأننا من الضروري أن نتفق على شيء ونعمل في سبيله. هو أكثر الموجودين ثقافة وأول من سيبادر منهم إلى إعارتك الكتب.
نسيت أن أذكر تلك الفتاة أيضا التي لا تتوقف عن التباهي بإنجازات المسيرات الهائلة التي اشتركت فيها، فهي تقوم بإرسال تغريدات عبر تويتر بمعدل واحدة كل دقيقة تقريبا، ولا توجد مسيرة بالنسبة لها ليست ضخمة، وكل المسيرات تعبر عن الزخم الثوري وحراك الجماهير حتى ولو كان السائرون فيها يطالبون بسحب لقب الدوري من الأهلي.
ولا يفوتني حقا ذلك الفتى الذي يتفاخر دوما بالإضرابات التي قادها في أماكن عمله السابقة التي لم يستمر في أي منها لأكثر من ستة أشهر، هو يتحدث بكل الزهو عن القضايا المرفوعة ضد أصحاب العمل الرأسماليين مصاصي الدماء ويضع ساقا على ساق وفي النهاية يطلب من الحاضرين التكفل بحساب مشروباته.

حلقة ثالثة وليست أخيرة تتألف من مجموعة من الذكور، واعذرني حين أستخدم وصف "الذكور" وأستبعد "الرجال" فذلك أدق بكثير في استحضار الصورة التي أروي عنها هذه السطور.
لا تتعجب من جلساتهم الغريبة وحركات سيقانهم، ولا تتأمل كثيرا في ذلك الفتى الذي يعطيك انطباعا أنه سحب وجهه للتو من تحت شفرات الحلاقة ولن يلبث أن يعود إليها بعد خمس دقائق  حتى يبقى على هيئته تلك.
إذا حدث وانضم عنصر خارجي إلى الجالسين حول تلك الطاولة فلن يتأخر كثيرا حتى يسمع رواية أحدهم عن استبعاده من الخدمة العسكرية وخروجه بالشهادة الحمراء، وحينها سيظن أن ذلك كان لسبب أمني ولكنه يدرك لاحقا أن القرار كان لمخالفة المجند لناموس الطبيعة، حسب التعبير العسكري.
إذا أخطأ الدخيل وذكر كلمات مثل "شاذ" أو "لواط" أو "سُحاق" في مثل هذه المجالس فكأنه تفوه باسم هتلر في وجه سليل أحد ضحايا المحرقة، وما عليه إلا أن يتقبل كل الأوصاف التي ستنهمر بدءا بالعنصرية ونهاية بالرجعية.
سيسمع الكثير حينها عن فيلم "جبل بروكباك"، وأعمال آندي وارهول، وقد يرى أحدهم يخرج قطعة من قماش من حقيبته تجمع ألوان الطيف قاطبة، وآخر لا يستحي من الحديث عن أفضل أنواع الزيوت الزلقة وربما بعض التفاصيل.

أمر سريعا من أمام المقهى كمن يعبر –مضطرا- شارعا تقطعه برك مياه مجاري الصرف الصحي برائحتها المقززة ومخاطر الانزلاق في أي منها ومن ثم اتساخ الملابس وتعكر اليوم.. ثم أشعر بالهواء قد عاد منعشا بينما أبتعد عن تلك الطاولات وأصحابها.

للطاولات بقية.

عمرو 

ليست هناك تعليقات: