الثامن من ديسمبر 2010.. يوم أعتقد أنه سيبقى في ذاكرتي كونه شهد واحدة من أسوأ التجارب التي مررت بها إن لم تكن أسوأها على الإطلاق.
في أبريل 2008 كتبت تدوينة بعنوان "العمر لحظة" تحدثت فيها عن حادث سير تعرضت له وكنت على وشك الموت خلاله وهو وضع قريب الشبه بما تعرضت له مؤخرا.
استأذنت من العمل مبكرا كي أتوجه إلى المطار حتى أستقبل والدتي العائدة من زيارة طويلة لأخي المقيم بالخارج.. أعرف المطار جيدا فقد ذهبت إلى هناك في أكثر من مناسبة منذ أن بدأت القيادة.
سرت باتجاه قصر النيل ودرت إلى داخل الجزيرة مرة أخرى حتى أصعد جسر السادس من أكتوبر الذي يقطع القاهرة حتى مقصدي.
عندما اقتربت من المنطقة أعلى ميدان التحرير بدأت أشعر بتنميل تصاعدي في الكفين والقدمين بجانب اضطراب تدريجي في ضربات القلب.. لم أكن أعرف هل كانت ترتفع أم تنخفض، ووجدت العرق البارد يتسلل إلى جبيني بينما كنت على وشك فقد الشعور بأطرافي كاملة.
ظننت في بادئ الأمر أن ثمة خللا في وضع جلوسي المعتاد يعيق وصول الدم إلى مناطق متعددة من الجسد، فشرعت بينما أستكمل القيادة في ثني وفرد كل ذراع على حدة، كما تعمدت الحديث مع نفسي بصوت عال ولكن شيئا لم يتغير.
بدأ الوضع يسير من سيئ إلى أسوأ.. ولا أستطيع التوقف لأنني أعلى الجسر والطريق يضيق أحيانا بحيث لا يتسع أكثر من سيارتين فضلا عن المنعطفات شديدة الانحناء التي كنت أتجاوزها بسهولة في السابق إلا أنها بدت في ذلك اليوم كأنها الجبال الشاهقة المطالب بتسلقها.
كنت أسير بصعوبة بالغة بسبب عدم قدرتي على التحكم بشكل كامل في الدواسات الثلاث أو ناقل السرعات فضلا عن عجلة القيادة ذاتها.. وكان التساؤل الملح هو "ماذا يحدث؟" ووجدت له إجابة وحيدة "أنا أحتضر".
استبعدت أن يكون الأمر مجرد هبوط لأنني تناولت طعاما معقولا للغاية في العمل ولم أشعر بالجوع، وبالتالي كان التفسير الأقرب في ظل غياب كافة التفاسير المنطقية هو أن الموت اقترب.
صعب علي الاستمرار في القيادة ورأيت أن الحل الأمثل هو التوقف بالسيارة أعلى الجسر مع إعطاء إشارة جانبية في ظل أن إشارة الانتظار لا تعمل.
بنيت القرار على أنه من الأفضل أن أموت وحدي داخل السيارة في هدوء بدلا من أن أسير بها وأصطدم بسيارة أخرى أو أسقط من أعلى الجسر.
عند التوقف.. كنت لازلت غير مصدق لما يجري ولكن هدأت قليلا فقررت مواصلة المسير ببطء خاصة مع اقتراب منزل طريق صلاح سالم وهو الذي سلكته بالفعل حتى توقفت أمام أقرب محطة للوقود كي أشتري عصيرا وشوكولاتة ظنا مني أن ذلك قد يكون الحل.
تناولت ما اشتريت وتابعت المسير، ولكنني فوجئت باختناق حاد أشعر به مع كل مطلع لجسر في الطريق، فتوقفت أعلى أحد الجسور مرة أخرى، وما إن هبطت حتى توقفت على جانب الطريق ولا أدري ماذا أفعل.
لا معنى بالطبع للاتصال بأي من أفراد العائلة لإقلاقهم بشكل بالغ عليّ خاصة وأنني لا أعرف ماذا يحدث.. فكرت في ترك السيارة بأي شارع جانبي واستئجار تاكسي إلى المطار ولكن لأنني لا أعرف المنطقة جيدا فقد استبعدت هذا الاحتمال.
مع مرور الوقت واقتراب موعد الطائرة، قررت مواصلة السير ولكن ببطء بالغ حتى أنني كنت أخرج ذراعي عند مطلع كل جسر وأشير للسيارات القادمة من الخلف بالتهدئة.
بلغت المطار أخيرا.. ذهبت إلى صالة 1 التي كان ينتظر أن تهبط إليها أمي ففوجئت بالعاملين يخبرون مستقبلين آخرين بأن الطائرة ستهبط عند صالة "3".
قبل الذهاب إلى الصالة الأخرى، توجهت إلى الحجر الصحي لقياس ضغط الدم، فأخبرتني الطبيبة أن النتيجة على ما يرام ورجحت أنني بحاجة إلى عصير طبيعي كالذي شربته في الطريق.
ذهبت إلى صالة "3" وكنت أشعر باضطراب في ضربات القلب ولكن بدرجة أقل قليلا.. كنت متوترا للغاية وفوجئت بسيل من المكالمات من زوجتي وأختي وأبي وأخي بل وأمي ذاتها وزملائي في العمل وكنت أجيب باقتضاب شديد ونفاد صبر مهول.
شكت لي أختي خلال مكالمتها من أنها تشعر بتعب بالغ بأعراض مشابهة للتي أعانيها، فأخبرتها أنني أيضا لست بخير حال وطمأنتها بأنني سأستأجر تاكسي للعودة إذا شعرت بعدم القدرة على القيادة.
وصلت أمي أخيرا.. توتري دفعني لأن أضل الطريق في الخروج من المطار أكثر من مرة بينما كانت المكالمات تنهال اطمئنانا عليها مما جعلني أفكر في قذف الهاتف من النافذة حتى أهدأ قليلا.
أخبرتها أنني لست بخير ولذلك سأسير ببطء.. ومع أول جسر كان عليّ عبوره شعرت باختناق بالغ، فقررت أن أسير أسفل الجسور وهو ما جعل الطريق يطول بالنظر إلى اضطراري للسير داخل مصر الجديدة وألماظة ومناطق كهذه.
حين وصلت إلى العباسية كنت قد سلّمت بأنه لا معنى للصبر أكثر.. توجهت إلى مستشفى الدمرداش وبعد نحو ربع ساعة من السير داخلها بلغت عيادة الاستقبال حيث أجري لي قياس ضغط واختبار سريع لمرض السكري ورسم قلب وجاءت النتائج كلها سلبية والحمد لله.
قال لي الطبيب "أنت تعاني تهيؤات ليس أكثر"، فابتسمت وقررت مواصلة السير وحينها اتصل أبي لأن الوقت كان قد طال.
قلت له إنني تعبت قليلا فظن أن حادثة وقعت.. اتصلت أختي فأخبرتني أنها وزوجها في الطريق إلينا.. قلت لها إنني سأواصل السير حتى المهندسين ولنلتقي هناك.
تركت السيارة في المهندسين وركبنا سيارة زوج أختي حتى وصلنا إلى البيت لأبدأ في سماع تفسيرات من طراز أن السبب وراء كل هذا هو "قلة الأكل"، وهو ما أثار امتعاضي بالطبع.
عند الفجر.. فوجئت بنوبة ارتعاش قوية وشعرت ببرودة شديدة وانسداد بالأنف فجلست إلى المدفأة حتى غشيني النوم على الأرض.
في اليوم التالي، اصطحبتني أختي وزوجها إلى طبيب القلب حيث أجريت لي فحوصات اشتباه في الغدة الدرقية ورسم قلب على مدار 24 ساعة عن طريق جهاز يلف حول الجسد يشبه "الحزام الناسف" بجانب صورة دم كاملة.
سجلت أثناء ذلك نوبة ارتعاش جديدة واتصلت بصديق لي على وشك إنهاء دراسة الطب فطمأنني على نبضي وأكد لي أن الأمر ليس إلا توترا.
كانت أختي قد رجحت أن ما عانيته في السيارة هو ما يعرف بـ"نوبة الهلع" أو Panic Attack وعندما قرأت على الإنترنت أعراضها وجدتها تطابق ما حدث لي بالضبط.
جاءت نتائج الفحوصات سلبية والحمد لله مع تسجيل ارتفاع ملحوظ في ضربات القلب عند نوبة الارتعاش الثانية ولكن الطبيب رأى أنه في الإطار الطبيعي واستبعد أن يكون ذلك نوبة هلع مستشهدا بحالة لتلك النوبات جاءت إليه في السابق ولكنها لم تكن في حال ثبات مثلما كنت أنا.
صرت أجد صعوبة بالغة في القيادة ويجتاحني خوف كبير من صعود الجسور أو زيادة السرعة على الطرق المفتوحة، فعدت إلى المواصلات العامة مرة أخرى ولكنني أصاب أحيانا بأعراض محدودة سواء كنت راكبا أو ماشيا أو حتى في العمل.
هذه الأعراض تعني أنني في مرحلة Limited symptom attack والتي تظهر فيها أربع أعراض أو أقل من الأعراض الأساسية لنوبة الهلع.
أستبعد ما قاله الطبيب لأن استجابات الأشخاص للصدمات النفسية تتفاوت، فقد استطعت التماسك نوعا ما رغم القلق الذي انتابني ولكن حالة الفتاة التي استشهد بها قد تختلف صفاتها عني ومن ثم استجابتها لوضعية مشابهة.
المشكلة أن الموضوع يتطور أحيانا لحالة ما يعرف بـ"رهاب الخلاء" أو "أجروفوبيا" حيث أشعر بانعدام للراحة في الأماكن المفتوحة المزدحمة أو غير المأهولة تماما مثل الطريق من وإلى المنزل وخاصة بالليل، وهذا يبدو في حاجة إلى علاج نفسي إن استمر.
الوضع قد يكون تطور إلى اضطراب دائم للقلق Anxiety disorder وهو ما يتماشى مع طبيعة شخصيتي القلوقة للغاية وتبرزه الأحلام التي طالما رأيتها كتلك الخاصة بالامتحانات والتي بدأت تدهمني بعد التخرج وتحدثت عنها في تدوينة سابقة.
في كل الأحوال يبقى هناك سبب مباشر يفترض أنه المثير لكل هذا القلق الذي ربما يكون تراكميا.. هذا السبب لا أعرفه شخصيا.. قد يكون في باطني ولكن من الصعب أن يبدو كل ذلك مجرد وهم.
أطلت الحديث كثيرا.. ولكن هي مدونتي وملكيتي الخاصة على أي حال.. وشعرت بالحاجة في كتابة هذه السطور قبل نهاية العام على أمل أن تكون بداية الفصل الأخير في علاقتي بهذه الحالة المتدهورة التي أسأل الله ألا يمر بها أحد.