حقا بات أمرا مثيرا للاشمئزاز ما يحدث في مصر يوميا من انقطاع للتيار الكهربي لسبب صار معروفا للجميع وهو أزمة الغاز الذي نصدره لإسرائيل مدعما.
في هذا الشأن –كغيره من أغلب الشئون- تجدني ضد الحكومة تماما وأكاد أتلو الفاتحة على أرواحنا نحن الشعب الصامت الذي بات في حالة موات تام تجعله يتقبل كل شيء بعد نوبة من السباب سريعا ما تنتهي.
هذا ربما هو شعور نسبة كبيرة أحسب أنني أنتمي إليها، وهي نفس الفئة التي تناقلت بعجب تصريحات المسئول الكبير الذي أكد على أن انقطاع التيار يزيد من ثواب الصائم، وهي ذاتها التي تنظر إلى الأزمة بعين لا تتحول عن ضعف الأداء الحكومي أو غيابه بالكامل.
ولكن الأمر بالنسبة لي يشمل شعورا آخر يغالبني أيضا -لا أزعم الانفراد به عن غيري- وهو أننا لا نستحق إلا هذا الذي يحدث لنا.. وأبرز لذلك سببا أتمنى ألا يراه البعض نوعا من جلد ذات وهو "إساءة الاستهلاك".
قد لا يختلف اثنان على أن مصر صارت بلدا استهلاكيا أكثر من أن يكون إنتاجيا.. والأدلة أكثر من أن تعد أو تحصى.. ربما نجحنا في صناعة السينما أو الدراما ولكننا بالمقابل تراجعنا كثيرا على مستوى الأغذية مثلا.. فلا نزرع إلا قليلا في حين أننا نلتهم الكثير المستورد.
انظر حولك.. ما هي الوظائف التي تنتظر أغلب الخريجين دون انتقاص من أي منها؟ مراكز خدمة العملاء؟ السياحة؟ ستجد بلا شك أن أغلب ما نتحدث عنه هو ما ينتمي إلى القطاع الخدمي وليس الإنتاجي.. هل نزرع؟ هل نصنع؟ وكيف ينظر المجتمع إلى كلية الزراعة أو حامل شهادة التعليم الصناعي؟
ما أقوله ليس بعيدا عن الموضوع كما قد يبدو.. بل هو صورة وثيقة الصلة بثقافة الاستهلاك التي باتت سائدة، والتي تجعل الواحد منا يرتعد إذا فكر كيف ستكون مصر إن خاضت حربا لأي سبب؟ من أين سنأكل؟ لا أحد يعلم.
هذا كله مرتبط بأن الاستهلاك بات هو التوجه العام.. ولأن لا أحد ينتج فليس هناك من يعرف قيمة الماء الذي يصل عبر شبكات أو ثمن الكهرباء المولدة.. كل شيء يأتي من حيث يأتي ولا يهم سوى أننا نستهلكه بعد أن يأتي.
البيت الذي يضم غرفتين في كل منهما مكيِّف هواء بالتقسيط.. يشهد في إحداهما جلوس الوالد وزوجته أمام التلفاز، وفي الأخرى شابا يستعمل حاسبه الشخصي، وفي الحمام مغلسة أوتوماتيكية لا تتوقف وسخانا كهربيا يرفع درجة حرارة الماء، بينما كل مصابيح المنزل مضاءة.
حين ينتقل الشاب المتعلم إلى الحمام لسبب تافه مثل حلاقة ذقنه فإنه لا يكلف خاطره أن يغلق المكيف في غرفته حتى يعود أو أن يغلق الحاسب توفيرا للطاقة.. وحين يقف أمام الحوض يترك الصنبور مفتوحا كشلالات ريبون بينما تركيزه كله هو إزاحة المسحوق من لحيته باستخدام الماكينة، وكأننا في بلد لا توجد به قرى قريبة من النيل لا تجد نقطة ماء.
حين يتأمل أحدنا مثل هذه الصور فإن الكلام عن مبادرات لمواجهة التغير المناخي مثل "ساعة الأرض" يبدو من قبيل الفكاهة أو الحديث عن علم النانو، فنحن لم نعد مؤهلين لإدراك قيمة الكثير من الأشياء.
ما أقوله هنا ليس من باب حملات التوعية الكلاسيكية التي نبحث عنها عبر "يوتيوب" للتندر مثل "هي كلمة!!"، ولست بحاجة أيضا للتأكيد على أنني لا أنحاز إلى موقف الحكومة ولو لمليمتر واحد.. فقط أريد أن ننظر في مرآة لا تعكس ما نعترف به الآن من قيم، لربما ندرك وجود خلل عفلناه.