الثلاثاء، أكتوبر 05، 2010

مع اللغات


­
ملاحظة لا بد منها: هذا الموضوع من ثلاث فقرات ولا أقصد في أي منها لمزا لأحد أصدقائي ومعارفي.. ولكنه بناء على واقع عرفته في شخصيات قابلتها خلال تجاربي القصيرة.


(1)

لازلت لا أفهم ما هو سر إقحام الكلمات الأجنبية -الإنجليزية بالتحديد- في مواضع لا يوجد فيها عجز للعربية. ولا أعرف من الذي أقرن "بصق" كلمة إنجليزية وسط كل جملة عربية بالتحضر أو علو المكانة الاجتماعية أو ارتفاع المستوى التعليمي أو أي شيء يستوجب التفاخر.

كل من يتعامل منا مع أي جهة خاصة -غير حكومية أعني- ذات علاقة بالتواصل المباشر مع الجمهور يجد دائما عبارات من طراز "حضرتك كلاينت مميز جدا" أو "لو فيه أي كومنت ممكن حضرتك تقولي" أو "لو حضرتك عملت أكسبت للأوفر ده هتكسب كتير" أو "هنبعت لحضرتك الريسيت على البيت أول ما توصلنا الإنفيتيشن".

طبعا لست بحاجة لذكر أن الكلمات الأجنبية السابقة ليست ذات علاقة بالكيمياء أو أي علم دقيق قد يكون تم الاصطلاح على دراسته بالإنجليزية.. بل هي المقابل الإنجليزي لكلمات عربية متداولة وبسيطة مثل "عميل" أو "تعليق/ملاحظة" أو "عرض" أو "قسيمة/فاتورة" أو "دعوة" وبالتالي فإن التكلف واضح كالشمس لدى الإصرار على استبدال لغة أخرى بالعربية.

المضحك في الأمر حقا أن كثيرين ممن يقحمون هذه الكلمات الإنجليزية في عباراتهم لا يعرفون كتابتها الصحيحة وحين يكتبون جملا كاملة فهم يقعون في أخطاء متعلقة بتصريف الفعل to be مثلا، فالأمر بالنسبة لهم لا يعني سوى "عدة الشغل" لأن المجتمع بات يتطلب هذه المظهرية كي يقتنع الآخرون بجدارتهم وكفاءتهم.

وعلى الجهة الأخرى، نجد أن أغلب من يجيدون الإنجليزية عن ظهر قلب نتيجة للتعليم الأجنبي أو أية عوامل أخرى يجهلون العربية بشكل يجعل من العسير على أي منهم أن يخط جملة أو اثنتين بلغته.. بل يفضل لغة دراسته دون تردد.

هذه ليست الصورة كاملة على أي حال، فبين أولئك وهؤلاء هناك من يكتب لغة عربية صحيحة ويجيد لغة أجنبية أو اثنتين وربما أكثر.. هذه الفئة أحترمها بالفعل.. هم لم يأتوا بالمعجزة سلوكيا.. ولكن في ظروف كهذه يبدو الشخص الطبيعي استثنائيا.

  
(2)

صار مألوفا لدي أن أجد من يدرس الإيطالية متيما بكل ما هو إيطالي، وأن من يعرف الفرنسية يحب فرنسا أكثر من الباريسيين أنفسهم، أما من يعرف الإسبانية فهو يضع علم إسبانيا على صورته الشخصية بالمواقع الاجتماعية وكأنه وكيل مدريد في القاهرة.

كنت أفسر هذا بحب كل ما هو جديد أو حب ما يتعلمه المرء أو بالمراهقة ولكن ذات مرة حكى لي صديق عن شخص يعرفه درس اللغة العبرية في الجامعة.. فتحول إلى تشجيع فريق تشيلسي الإنجليزي حين هجره أغلب محبيه من العرب في 2008 والسبب أن المدرب كان الإسرائيلي أفرام جرانت!!

فقط لأنه درس العبرية لم يعد يرى في إسرائيل العدو أو الشر، بل هي دولة كسائر الدول قد يتعاطف مع "مواطنيها" لأنه يعرف لغتهم ويردد أمثالهم وسبابهم ونكاتهم تماما مثل من يعرف الإسبانية ويحب الإسبان ومن يعرف الألمانية فيظن نفسه من مواليد دورتموند.
                     
لا أريد القول بأن ثمة خللا في الانتماء أو رغبة فيه، ولكن المؤكد أن هناك خللا في التفكير أو انعداما له بالكلية.


(3)

الأمر قد يأخذ بعدا آخر لدى بعض الدارسين للغة بعينها وبالأخص بعض الأكاديميين منهم، فمن درس الفرنسية مثلا يخيل له أن العالم الخارجي كله يتحدثها بما في ذلك الصين والهند وبلغاريا وطاجيكستان إن كان قد سمع عنها.

يظن دوما أن اللغة التي تعلمها هي الأهم وهي "لغة المرحلة" وهي التي تتيح له ما يُحرم منه غيره، بينما هو في الواقع أحادي النظرة لا يرى سوى الأرض التي يقف عليها.. وإن دقق لبرهة سيدرك كم الكون أرحب من مجال لغته الضيق.

هو يعيش في حلقة دائمة من "بانوراما فرنسية" أو "إسبانية" أو "ألمانية" فيظن أن العلم كله كتب بهذه اللغة الأجنبية التي يتناسى أن غيره من أبناء بلده يعرفونها، ويتصور أن الحياة في الغرب لا توجد إلا في الدولة الناطقة بهذه اللغة فقط.. ويتطور الأمر إلى أن ينطق أسماء اللغات الأخرى باللغة التي يعرفها وكأنها لسان العالم الأوحد.

 من يندرجون تحت هذا النمط من البشر هم أسوأ وسيلة دعاية للغات التي يعرفونها، فهم يثيرون حنقا تجاه اللغة نفسها بشكل يجعل الشخص العادي يفضل اختيار لغة أخرى لتعلمها كي لا يستمع إلى ملاحظاتهم وحتى لا يزاحموه عالمه. 

ليست هناك تعليقات: