الثلاثاء، يناير 10، 2017

أدعياء الدعوة

نشرت بموقع "ساسة بوست" في وقت سابق.
قبل خمسة عشر عامًا أصدر الثنائي الأسترالي “سافيدج غاردن” أغنيتهما الشهيرة “Affirmation” والتي كانت بمثابة إعلان أو جهر بعدة قناعات تعبر عن الشباب الذي يرى كثيرًا من الأمور بمنظور يخالف التوجهات المجتمعية السائدة، فكان من بين ما قيل عبارة I believe that God does not endorse TV evangelists أي “أعتقد أن الله لا يقر مبشري التلفزة”.
الجملة بطبيعة الحال تشير إلى المبشرين الذين يخاطبون الجمهور عبر شاشة التلفاز، وهي ظاهرة بدأت في الرواج خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة بريادة من البروتسانت تزامنًا مع انتشار قيم غير دينية كالنزعة الإلحادية، أو ما عُرف بالثورة الجنسية.
وشيئًا فشيئًا انتشرت الظاهرة متجاوزة الغرب ووصلت إلى المجتمعات العربية وبلغت ذروتها في أيامنا هذه لا عبر التلفزة فحسب، بل أيضًا عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي.
وبدلًا من المبشر صار هناك “الداعية”، ولكن الأدوات تكاد تكون واحدة، فالديكور يتكلف الملايين، وملابس المتحدث دائمًا تواكب الموضة، كما أن مفردات كلماته عصرية إلى درجة بعيدة، ما يجعل الباقة المقدمة تلقى قبولًا لدى الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، أو الطبقة العليا عمومًا، وربما تحظى بمباركة وتأييد من النخب الحاكمة، بل وحتى بعض التعاطف غير المعتاد من صناع السينما وكُتّاب الدراما الذين كانوا يشيطنون في الماضي القريب صاحب أي خطاب ديني.
ومع استفحال الظاهرة صار من غير المستهجن أن تجد “داعية شابًا” لا يضاهي أقل طلاب العلوم الدينية بضاعة، ينشر صورة على صفحته في فيسبوك وهو في منتجع سياحي ثم تقرأ التعليق المصاحب فتجد عظة تتحدث عن الصبر في “الشدائد”! فهو تمامًا كزميله الذي يظهر وخلفه ديكور تكلف الملايين ليحدث جمهوره عن فضيلة الصَدَقة، أو آثار الزهد.
هذا الخطاب يروج إصدارًا برجوازيًا من الإسلام على مقاس شرائح مجتمعية بعينها لا تلتفت إلى التناقضات الواضحة، ولكنه في الوقت ذاته يتجاهل قيمًا وفضائل أخرى قد يجعلها الواقع أكثر إلحاحًا كرفض الظلم، أو الجهر بالحق، وهي قيم ربما تجاهلها المبشرون حين جرفتهم أمواج التلفزة، فاستتبعت – ولو بعد عقود – نقمة من الشباب وصلت إلى أغنية سافيدج غاردن سالفة الذكر، فما أشبه اليوم بالبارحة.
إن حالة كثير من دعاة اليوم ممن هم موضع حديثنا تعتبر – إلى حد بعيد – إرثًا ثقيلًا لما عانته مجتمعاتنا من رواج خرافات “التنمية البشرية” التي صارت دوراتها وتدريباتها مهنة من لا مهنة له، فبخلاف كونها دائرة مفرغة بحيث يتحول متعلمها في يوم ما إلى أحد مدربيها ليحصد ما زرعه من أموال أنفقها، فهي أيضًا قضت على قيمة الكفاءة العملية، ونحّت المضمون جانبًا لصالح الشكل.
بعبارة أخرى، صار الشاب حديث التخرج أو حتى من لا يزال قيد دراسته الجامعية يبحث عن كيفية كتابة سيرته الذاتية دون أن تشمل تلك السيرة شيئًا ذا قيمة أصلًا من الناحية العملية!
وصار من الأهم أن يجيد لغة الجسد على حساب أية مهارة تنفيذية تتطلبها وظيفته! والناتج كان من الناحية الاقتصادية توسع قطاعات الخدمات على حساب الإنتاج، أما من الناحية البشرية فصارت لدينا كوادر تجيد التنظير ولا تعرف التنفيذ، وتحسن الكلام وتسيء الفعل، فهي واجهة جذابة وخزانة خاوية، وتحت هذه الخانة تجد بعضًا من دعاة اليوم.

ليست هناك تعليقات: