17 ديسمبر 2012
في مقال لا يُنسى للكبير د.جلال أمين بعنوان "دليل الرجل الذكي إلى فن إمساك العصا من الوسط" تطرق إلى عملية تغيير المصطلحات وإطلاق أسماء غير ذات دلالة على المسميات على حتى يتم تمريرها. فعلى سبيل المثال عندما تريد الحكومة إلغاء الدعم فإنها تطلق على هذا الإجراء اسما لطيفا يبدو مقبولا للجميع لا حرج فيه وهو "ترشيد الدعم"، وهكذا.
والحقيقة أنني أسترجع الآن مقال د.جلال أمين كلما رأيت التلاعب المقصود تماما لتشويه المسميات أو تجميلها بأسماء لا تنطبق عليها على الإطلاق، والأمثلة أكثر من أن تعد أو تحصى خاصة في الحقل السياسي الذي صار مرتعا لكل من هب ودب.
تلعب وسائل الإعلام دورا كبيرا في تغيير دلالات المسميات عن طريق إطلاق أسماء غير دقيقة، فالعلمانية مثلا اختفت تماما وصار الاسم الدارج لها هو "المدنية".. فهناك تيارات مدنية وقوى مدنية وأحزاب مدنية ومراحيض مدنية.. إلخ. ولا يخفى على أحد أن كلمة "مدنية" ذات وقع طيب في الأذن فهي تستدعي أولا فكرة التحضر والابتعاد عن البدائية وبالتالي هي مقبولة للغاية مقارنة بمصطلح العلمانية سيئ السمعة. وهنا أتساءل إن كانت كل هذه أحزاب مدنية.. فأين الأحزاب العلمانية؟ ربما في كوكب أورانوس.
قال لي صديق دبلوماسي عزيز إن المدنية هي الفصل بين السلطات، وأنا أقول إنه بناء على ذلك فالأحزاب الإسلامية القائمة مدنية أيضا ولا يحق لأحد الاستئثار بمصطلح دون آخر، ولكن هذا للأسف من قواعد اللعبة.
في المقابل أطلق الإعلاميون على الأحزاب الإسلامية صفة "الدينية" وهو وصف به ما به من تبغيض. فقد اعتدنا –على عكس بلدان أخرى- حظر إنشاء الأحزاب على أسس دينية ومن ثم فإن المصطلح الذي يتم الترويج له ينزع صفة القانونية ابتداءً عن هذه الأحزاب، ويعطي انطباعا بأنها تفرق بين أبناء الوطن على أساس الدين وهكذا.
ويتجاهل هؤلاء عن عمد واضح مصطلح الإسلام بمعناه الواسع والذي يتجاوز فكرة كونه مجرد دين إلى إطار حياة أو قاعدة حضارية تستوعب من يؤمن بأي دين آخر على المستوى العقدي، وهذا هو ما وطأ له العبقري الراحل علي عزت بيجوفيتش في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" حين قال إن "الدين" بمعناه المتداول شيء، و"الإسلام" شيء آخر.
نفس لعبة المدنية والدينية هذه لعبها الرفاق اليساريون في السابق، فأطلقوا على تياراتهم وأحزابهم اسم "التقدمية".. ومن فينا يبغض التقدم أو لا يريده؟ هو اسم محبب إلى النفس أكثر من كلمات كالشيوعية سيئة السمعة أيضا.
وبالطبع فإن نقيض هذا الاسم هو "الرجعية" وبالتالي فكل من يعارض هؤلاء التقدميين هو رجعي بالضرورة وظلامي ومتخلف وربما إرهابي.. وهكذا.
اللعبة بالطبع أقدم من السياسة بكثير، فالخمور مثلا لأنها محرمة بنص قطعي في الإسلام تمت تسميتها "مشروبات روحية".. من منا لا يريد لروحه أن تنتشي وتنتعش؟ ربما "المتطرف"، وحينها يكون شارب الخمر هو "المعتدل".
الأمثلة كثيرة ولا تنتهي لأن اللعبة قديمة للغاية، ولكن ما أخلص إليه أنه لا توجدى قوى سياسية مدنية في مصر دون غيرها، الكل مدني لأن الكل يؤمن بفصل السلطات ولكن من يؤمن بفصل الإسلام أو عزله عن سياق السياسة والمجتمع بوجه عام هو علماني بالضرورة سواء كان اشتراكيا أو ليبراليا أو وسطا بينهما.
وبالمثل، فإن من يؤمن بمرجعية الإسلام هو إسلامي بالضرورة سواء كان يجنح لليمين أو اليسار أو يتوسط بينهما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق