14 ديسمبر 2012
هذه تدوينة من شخص يؤيد الرأي القائل بتمرير الدستور، ومن ثم فإذا كنت ستقرأ السطور التالية بغرض تفنيدها فقط أو إن كنت ستقرأها ولا نية لديك أبدا للاقتناع فالأحرى بك أن توفر وقتك ولا تتعب عينيك وأعصابك.
أما إذا كنت لا تزال حائرا بين القبول والرفض، أو أنك تميل إلى أي من الاتجاهين ولم تحسم أمرك بالكلية، أو أنك تريد أن تكون ممن يستمعون القول ثم يتبعون أحسنه فقد يكون مجديًا أن تقرأ ثم تحسم موقفك نهائيا بعد ذلك.
لا أزعم أنك ستقتنع برأيي بالضرورة.. بل ربما تستبعده إذا رأيت كلامي واهيا غير متماسك ينم عن احتيال سياسي وكذب وما إلى ذلك، وشخصيا لا أنتظر تصفيقا من أحد.
هناك في البداية عدة أمور ينبغي إيضاحها بشأن النص المقترح للدستور الجديد:
أولا: هناك كذبة منتشرة بأن الدستور لن يتم تعديله إلا بعد عشر سنوات من إقراره وهذا غير صحيح.
ثانيا: هناك مغالطة دائرة بأن مجانية التعليم غير مكفولة إلا في مرحلة أو اثنتين وهذا كذب (راجع المادة 58).
ثالثا: هناك شائعة أن الدستور يعطي صلاحيات مهولة لرئيس الجمهورية. (راجع المادة 141).
رابعا: ثبت بالطبع افتراء من تحدث عن زواج الفتاة من سن تسع سنوات وإعادة نظام الجواري وما إلى ذلك.
والسؤال الأوليّ البديهي.. لماذا تثار شائعات عن نص دستوري وإلصاق مواد غير موجودة به عنوة إلا إذا كان هذا النص على درجة من الجودة؟ بعبارة أوضح.. إذا كان النص كارثيا فيكفيك استعراض مواده فقط وإظهار العوار فيها ولكن لماذا تبتدع موادا وهمية وتقول إنها فيه؟ الإجابة لدى أي عاقل معروفة.
وقبل أن أسترسل في مناقشة بعض النقاط أود أن أذكر القارئ بأنني شخص براجماتي لا أنظر للنصوص بشكل تجريدي بعيدا عن سياق الواقع، وبالتالي فحين أفكر في رفض الدستور فإنني أفكر بالضرورة في السيناريو البديل ومن سيقوده شئت أم أبيت.. وبالتالي فموازنات السياسة حاضرة بقوة بما في ذلك الانسحابات الكوميدية في آخر ساعات عمل الجمعية التأسيسية المنتخبة، وسيأتي بيان ذلك في محله.
هناك حديث دائر عن أكثر من مادة مثيرة للجدل سأحاول التعقيب عليها سريعا:
- الدستور لا يجرم عمالة الأطفال: هذه حقيقة وقد رهن السماح بها بأن يكون العمل ملائما لسن الطفل وطاقته الاحتمالية. والحقيقة أن من يعارض هذه المادة أحرى به أن يعيش في بريطانيا أو السويد كي يجد ذلك متسقا مع المجتمع.. أما في مصر فلا! سأبدو رأسماليا استعباديا وأنا أقول إن الأيدي العاملة الماهرة التي يتدرب صاحبها منذ الذهاب مع والده وهو صغير إلى ورشة الميكانيكا أو الحدادة هي التي تصنع الفارق لدى الأمم الصاعدة. ولنا في بريطانيا مثال فقد حظرت العمالة للصغار فجاء البولنديون من شرق القارة فسيطروا على كل الحِرف. وقد أكون شديد الواقعية حين أرفض القبض على الفلاح الذي يصطحب ابنه للحقل لمساعدته في حمل الفأس وضرب الأرض به لأن في ذلك مشقة على الصغير. وقد أكون ديكتاتورا إذا شجعت ابني على العمل في سن صغيرة لأنني لا أريد أن أراه ينتظر إعانة العاطلين بعد التخرج.. فهذه في نظري شيء مشين حتى وإن كفلها الدستور الذي أوافق عليه. ينسى البعض أو يتناسى عمدا أن بعض المواثيق الدولية التي تجرم عمل الطفل تحدد سن الطفولة بـ18 عاما فما دون ذلك.. وهذا معدل كبير للغاية في دولة مثل مصر. أضيف أيضا أن عمل الأطفال لن يتم على حساب دراستهم طبقا للدستور الجديد فإما يكون في عطلة الصيف أو أن يكون بعد الانتهاء من التعليم الإلزامي (حتى المرحلة الإعدادية) أي سن 15 عاما.. وبالتالي فتخيل منظر طفل عمره سبع سنوات يُضرب بالسياط لعدم موافقته على العمل واعتبار ذلك من سلبيات الدستور الجديد سيناريو غير منصف. علينا أيضا ألا ننسى أن الدساتير والقوانين تنتهك ليل نهار.. فالقانون مثلا يجرم السرقة.. فهل سيتوقف السارقون عنها؟ بالطبع لا! وبالتالي ستكون هناك مخالفات فيما يتعلق بعمالة الأطفال وليس للدستور ذنب في ذلك.
- المحاكمات العسكرية: يحظر الدستور الجديد محاكمة المدنيين عسكريا إلا في قضايا الإضرار بالقوات المسلحة.. والأمثلة البديهية على ذلك المجند الذي يفشي سرا عسكريا بعد انتهاء خدمته، أو العابث الذي يصور منطقة عسكرية رغم لافتة "ممنوع التصوير" ولا أحسب حالات كهذه واردة التكرار كل يوم على النحو الذي يثير فزع المعارضين. وللأسف فإن بعضا منهم أعد استفتاءات لبيان مدى موافقة الواحد منا على الدستور وزعم أنه يحيل المدني للقضاء العسكري إذا اختصم شخصا من العاملين بالقوات المسلحة وهذا غير صحيح بالمرة، وعودة للافتراء. البعض أيضا يبالغ في مثاليته ولا يكتفي بقص أجنحة العسكر في هذا الدستور فيريد نتف ريشهم تماما.. وهذا مستحيل في الفترة الراهنة للأسف لأن السيناريو البديل ورموزه التي تقوده دعت بنفسها منذ فترة طويلة إلى أن يخول الدستور الجيش حماية "مدنية الدولة" فالمسألة عندهم لا تتعلق فقط بالقضاء العسكري بل تمتد للشأن السياسي والوصاية المباشرة على الدولة – راجع حوار محمد البرادعي مع صحيفة الأهرام في أبريل 2011 وعدم نفيه لأي مما جاء فيه إلى الآن.
- العمل الإحباري: يسمح الدستور الجديد بفرض عمل إجباري بشرط أن يكون ذلك بقانون. ولا أدري إلى أي مدى وصلت خصوبة خيال المعارضين لهذه المادة حتى تخيلوا أنفسهم يحفرون قناة السويس مرة أخرى بالسُخرة. والمضحك أن أحدا منهم لم يتخيل العمل الإجباري هذا كنموذج الرئيس الراحل جمال عبد الناصر حين ألزم كل خريج جامعي بمحو أمية عدد معين من الفلاحين قبل طلب الحصول على وظيفة بالدولة كنوع من خدمة المجتمع. البعض يتناسى أيضا أن رهن العمل بالإجباري بالقانون يعني أنه لن يمرر دون موافقة البرلمان المنتخب مباشرة من الشعب.. وبالتالي لن يهبط من السماء على رؤوس العباد في صورة السُخرة التي تكون بلا مقابل مادي.
- الأجهزة الرقابية: يقول المعارضون كيف يعين الرئيس وهو السلطة التنفيذية قادة الأجهزة الرقابية التي تراقب عمله؟ والواقع أنه طبقا للمادة 141 فإن رئيس الوزراء –المكلف من رئيس الجمهورية- هو من سيقوم بالتعيين وليس قبل موافقة مجلس الشورى، ما يعني أن هناك ثلاث مؤسسات تشترك في القرار هي: الرئاسة – البرلمان – الحكومة.. وهذا نفس النظام المعمول به في فرنسا لأن الأجهزة الرقابية تراقب عمل البرلمان أيضا وليس الحكومة فقط. وينبغي ألا ننسى أننا في مصر نعاني في عدد كبير من إدارات هذه الأجهزة من ترسخ الفساد، ومن ثم فالأفضل أن تتولى المؤسسات المنتخبة تعيين هذه القيادات بدلا من أن يكون بنظام الأقدمية الإدارية أو المحسوبية فنكرر نموذج عبد المجيد محمود، وقضية النائب العام ينطبق عليها ذات القول.
- المرأة: يقول البعض إن المرأة تم تجاهلها.. وأنا أقول بالطبع المرأة التي تمثلها بعض المؤسسات النسوية الفضائية تم تجاهلها أما المرأة المصرية فلا. ووضعية المرأة المعيلة تشهد بذلك لمن قرأ الدستور. وفي النهاية فإن المساواة مكفولة لكل المواطنين "بلا تمييز" أي بغض النظر عن أي اعتبار تفريقي كاللون والجنس والعرق والدين أو أي اعتبار آخر قد يظهر مستقبلا.
- سلطات الرئيس: البعض يقول بالطبع إن الرئيس يعين كثيرا من الموظفين بشكل يجعله الحاكم بأمر الله، والحقيقة أن سلطة "التعيين" شيء وسلطة "الاختيار" شيء آخر. فبابا الكنيسة الأرثوذكسية مثلا يصدر قرار بتعيينه من الرئاسة ولكن الرئيس ليس من يختاره بالطبع كما شاهدنا مؤخرا.. وعلى هذا قِس في كثير من المناصب.
بعد هذه المواد السريعة أقول إن البعض يتجاهل أن الدستور الجديد يقر حدا أدنى للمعاشات التي صارت حقا للجميع، وبالتالي في ضوء آخر قانون صادر بجعل الحد الأدنى للأجور 750 جنيها فإن المعاش لن يكون أقل من ذلك ولن يحصل جدك أو والدك على 300 جنيه شهريا أو ربما أقل كما كان في السابق.
وأحسن الدستور صنعا حين لم يلزم القطاع الخاص بوضع حد أقصى للأجور وإلا أغلقنا الباب أمام كل الاستثمارات الأجنبية وفر القائم منها إلى أية دولة أخرى بالمنطقة، فالحد الأقصى مكانه القطاع العام لا الخاص وهذا معروف في عالم الاستثمار.
الدستور يحظر مصادرة المال الخاص أي يحظر التأميم وهو في ذلك ليبرالي بامتياز، ولكنه يكفل مجانية التعليم في شتى مراحله وهو في هذا اشتراكي بامتياز. ومن ثم فإن الاستماع كثيرا إلى انتقادات الليبراليين أو الاشتراكيين يجعلنا ندرك استحالة أن يخرج كل فريق وهو راض تماما عن النص الدستوري.. فهذا يريده موجها في سياق السوق الحر وهذا يريد دورا كبيرا للدولة وتقليصا للقطاع الخاص.. ومن ثم يبدو "التوافق" هنا أشبه بأحلام هند وكاميليا في الفيلم المعروف.
على مستوى الحريات فإن الدستور يكفل حرية إصدار الصحف بمجرد الإخطار ما يعني تحرير صاحبة الجلالة من قيود لازمتها طويلا كالترخيصات القبرصية والتعرض لمقص الرقيب والالتزام بميزانية ضخمة وغير ذلك، وإن كان يلزم الإعلام المرئي بالخضوع للقانون فهو أمر واجب لأنه من حق أبنائنا أن نأمن عليهم من مشاهدة فضائيات ككثير من القنوات التي تبث حاليا دون أدنى مسئولية.
أربأ بنفسي بالطبع أن أتحدث عن أن الدستور لا يكفل إقامة دور عبادة للأديان غير السماوية، فهذا أمر يليق بالمرفهين فكريا ومن لف لفهم.
البعض للأسف أيضا يحب كلمة "لا" في حد ذاتها, وقصيدة كلمات سبارتاكوس الأخيرة للراحل أمل دنقل خير شاهد. فرتبة "الثورية" بيدهم ينعمون بها على من يوافقهم الرأي، وأرجو ألا نكون من هذا النوع.
في النهاية وبعد أن طرحت أسبابي وقرأت الدستور وتبين أن الموضوع ليس عِنادا فحسب كما تخيل البعض أذكّر فقط أن رموز النظام السابق وعلى رأسهم أحمد شفيق قد أجمعوا على دعوة المصريين على رفض الدستور. وظني الشخصي أن هؤلاء الأفاقين واللصوص لن ينتفعوا أبدا من الحق فما يدعون إليه لا يكون إلا باطلا ولن أقف إلى جوارهم مهما حدث.. وربما كان قرارهم هذا بمثابة رسالة طمأنة لي كي يشعر ضميري بأقصى درجات الارتياح وأنا أختار "موافق" على الدستور الجديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق