الأربعاء، ديسمبر 06، 2006

صناعة المأساة


كنت جالسا مع صديق عمري على إحدى المقاهي نتحدث في أمور شتى من بينها الرومانسيات، كنت أقول له أن هناك نمطا من البشر يهوى دورا معينا فيدمر الكثير كي يحياه، كهؤلاء الذين يهيمون بدور المغترب للدراسة أو للعمل، يعجبه ما في الأمر من رومانسية الوحدة والانعزال وشوقه للقاء لآخرين وشوقهم إليه، إنه لا يملك هدفا محددا من وراء اغترابه بقدرما يتوق إلى شعور الاغتراب –وأعني الاغتراب المكاني- في حد ذاته، ربما قرأ عنه، اختلط بآخرين عاشوه، أو سمع أغنية تحوي نفس المعنى فهام بتحقيق الاغتراب بالفعل، فصار بالنسبة له هدفا في حد ذاته، وبالطبع لا جدل أن المثل العامي القائل "الغربة تربة" صحيح بدرجة كبيرة، فلا يوجد للإنسان أحب إليه من أهله وأحبائه، قد ألمس أنا هذا المعنى تحديدا حين أستشعر في حديث أخي إليّ رغبته الشديدة في العودة إلى مصر متى تسنح الفرصة، ولكن الحالمين بالغربة لا يأبهون بذلك، فقط يريدون شعور الاغتراب ظنا منهم أنه يضفي سحرا على الشخصية بدرجة ما... فانتازيا الغربة إن صح التعبير! ولو اغترب هؤلاء يوما سيعرفون كم هم حمقى لافتقادهم لأي هدف من وراء اغترابهم، حتما الوضع سيختلف لو كان هناك هدف قوي يطرح نفسه بمبررات مدعمة.

أعود إلى حديث صديقي لأنه أُعجب بالفكرة وكأنه قد لمسها في آخرين بدوره، وضرب لي مثلا آخر فيمن يدخل في قصة حب وهو مدرك تمام الإدراك أن الفشل مصيرها الحتمي، ولا عجب أنه لهذا دخلها! هو ببساطة أحب أن يحيى دور المجروح أو المظلوم أو ضحية الظروف أو ضحية نفسه، هكذا أراد، وهكذا انساق وراء إرادته! وقد لا يدري من البداية أن الفشل مسار وارد ولكنه في منتصف الطريق يقدم على اختياره بعد أن جذبته عزلة الكآبة المضفاة على المحب الجريح.

الحقيقة أن الإنسان الجامح للمأساة مريض نفسيا بطبعه، فهو يختارها عن وعي ويجد فيها ما يجذبه، المسألة ستكون عادية جدا لو كان يصنع اختياره بمفرده ويتحمل وحده انعكاساته، فحق الانتحار مكفول لكل من يريد، ولكن في حالة الاغتراب مثلا فإنه بأنانيته الحمقاء يحرم أهله ومحبيه منه من أجل رغبة ذاتية مريضة غير مستندة إلى دافع يستحق تضحية الارتحال والفراق، والحال نفسه مع المحب الذي يفضل الفشل ليحيى دور الجريح فغالبا ما يكون هو الجارح، وهو لا يأبه مطلقا بمشاعر الطرف الآخر، الأهم أنه نال الشعور الذي دوما ما أراده.

هناك شعور ثالث يسيطر على قطاع كبير من صانعي المأساة، فهم يعتبرون أنفسهم عين المأساة! هي فكرة أشبه بعناصر الملحمة الإغريقية، فالبطل الملحمي غير صالح للبيئة المحيطة، ربما يعطينا المصطلح الإنجليزي لفظة أدق هنا هي Outcast ، فهذا النموذج ظلمته البيئة من حولها حيث تطالبه بما لا يستطيع تقديمه، وهو يظلم البيئة في عدم تناسبه لاإراديا مع معطياتها، وهو حتما يملك قدرات غير عادية تمنحه تفوقا ملحوظا على أقرانه في أكثر من حقل، هكذا يرى هذا النوع من صانعي المأساة أنفسهم، هم Outcast للمجتمع ككل، فيظنون أنهم لن يجدوا أبدا من يفهمهم، وهم معجبون بظلمهم للمجتمع المتمثل في عدم اندماجهم مع أطره كالآخرين، وفي الوقت نفسه يجدون لذة في شعورهم بالتعرض للاضطهاد نتيجة عدم تفهم المجتمع لهم، ودائما ما يعبرون عن معتقداتهم المزعومة بألفاظ عامة جدا لذا لا ريب أن تجدهم معجبين بمقطع في إحدى أغاني فريق Backstreet boys القائلة This ones for the dreamers locked their faith inside، المشكلة أن هذا الاعتقاد أو الإيمان مبهم بالنسبة لهم أيضا، عموما أقول لهذا النوع تحديدا أن عليهم بالاستفاقة سريعا من دوامة اللامعنى وأن يريحوا أنفسهم ويريحونا، ويدركوا أنهم بشر طبيعيون بدلا من أسطورة تقديس الذات، وإلا سيتحقق العنصر الثالث من عناصر تكوين البطل الملحمي في الإغريقيات وهو... الموت الحتمي!


هناك 4 تعليقات:

Unknown يقول...

كلام منطقى جداً، احسنت يا عمرو.

Amr يقول...

تسلم يا باشا، أصل بجد فكرة الأوتكاست في إنسان دي خنقاني أوي، ربنا يعافينا

Mai Kamel يقول...

سيبك انت الاوتكاست دول سناجب
ههههههههههههههههههههههههه

ماعلينا ذكرتني ثاني فقرة ببيت الشاعر العظيم حين قال
واعلم ان النهاية مكتوبة منذ بدء البداية
ولا شيء يجدي لتغيير باقي الحكاية
للشاعر محمد قرنة

الحزن له فلسفة.. فيه نوع من المتعة النسبية أكيد.. وبعيدا عن الجدل البوست كله ممتع
الامثلة التلاتة بافكارهم التلاتة كل واحد جربهم في عيلته او حياته ولو نموذج واحد منهم بس اعجبني ختام الحالة التالتة
الموت الحتمي وان لم يكن فعليا فنفسيا بالتأكيد

Amr يقول...

منورة يا مي
إضافتك بتاعة وإن لم يكن فعليا فنفسيا في محلها تماما
الغريبة إن
backstreet boys
بيقولوا في نفس الأغنية
No one is glamorously lonely, all by themselves
بس الناس بتنقي اللي على مزاجها