الجمعة، أغسطس 02، 2013

الكنيسة الأزهرية

  

أستشعر أن هناك اتجاها قويا لإضافة مؤسسة الأزهر إلى قائمة الكنائس المصرية، ولن يكون ذلك أولا عن طريق قوانين أو نصوص دستورية بقدر ما سيكون عبر إعادة صياغة صورة الأزهر أو قل صورة الإسلام ذاته في الوعي الجمعي لدى المصريين.

بدأ الأمر منذ نحو عام أو أكثر حين ارتفع نجم الإخوان المسلمين والتيارات السلفية في الساحة السياسية المصرية، ونجح ممثلوها في القبض على أغلبية البرلمان قبل حله، بل ووصل رئيس إسلامي إلى مقعد الرئاسة قبل عزله من قبل العسكريين.

صاحب ذلك الصعود ما يمكن تسميته بانفلات في الخطاب الإعلامي من قبل المحسوبين على التيارات الإسلامية، خاصة من يعمل منهم بالجانب الدعوي مثل حازم شومان وعبد الله بدر وصفوت حجازي وبعض المذيعين، بجانب بعض الساسة للأسف.

"المتأسلمون" كان اللفظ الذي اختاره الإعلام الذي تسيطر عليه النخب العلمانية لإطلاقه على ذلك الفريق بدعاته وساسته، وبدأت حملة واسعة النطاق لتعميم كل سلوك خاطئ يصدر من أحد الرموز على التيارات الإسلامية، باختلافها وتعددها.

وبجانب ذلك كانت هناك حالة من الهرولة إلى مؤسسة الأزهر باعتبارها تمثل القيم "الوسطية" في مواجهة "تشدد" الجماعات السياسية التي تتبنى شعارات إسلامية، وتم تجاهل الاختراق الحكومي من أيام مبارك للمؤسسة الأزهرية، وبالتالي أعيد إلى المشهد بعض القيادات داخل الأزهر المعروفة بولائها الكامل للجهات الأمنية، وعدائها لكل الحركات الإسلامية.

كل ذلك لم يكن يمثل خطرا حقيقيا إلى أن بدأت في الأشهر الأخيرة قبل عزل الرئيس مرسي عملية تلميع فائقة للأزهر، وكأنه مؤسسة لا تنطق قياداتها "الرسمية" عن الهوى، واقترن ذلك بتجاهل تام لتواجد تيارات متباينة داخل الأزهر ذاته كجبهة العلماء التي تعارض دوما القيادات الرسمية، وكبعض الشيوخ المعروفين بتوجهاتهم السلفية أو بانتمائهم لحركات إسلامية سياسية.

هناك الآن برنامج تلفزيوني مثل "الأزهر المجيد" هدفه إضفاء صبغة من القدسية على المؤسسة بكاملها، وهناك عالم أزهري مثل أحمد محمود كريمة صار -بكل "تنازلاته" عن أفكاره هو نفسه- رمزا للاعتدال ولروح الإسلام.

ومع تزايد الدعوات للقضاء تماما على الحركات الإسلامية السياسية بعد غلق منابرها الإعلامية المنفلتة، تزداد حدة عملية تلميع الأزهر لدرجة تجعل القائمين عليه أو كل من ارتدى عباءته وعمامته يحظى بقدسية ذاتية، تماما كـ"رجال الدين" لا "علماء الدين" المنتسبين للكنائس المختلفة.

وهذه القدسية مرتبطة بوجود خطاب أزهري يرفض الحركات الإسلامية ويقدم طرحا للدين الإسلامي لا يتعارض مطلقا مع مصالح النخب العلمانية، فهو خطاب تصالحي مع الواقع –أيا كان الواقع- بامتياز، وبالتالي فإن الحفاظ على القدسية مرتبط بالاستمرار على هذا الخطاب الذي ستروجه وسائل الإعلام.

هذه القدسية لن تبدو في أول الأمر مفرغة للإسلام من محتواه، بل بالعكس ستعطي احتراما كبيرا لـ"رجل الدين" الأزهري، وسيقف له الناس في طرقات إجلالا لدى مروره، بل وقد يقبّلون يده، ولكنه سيكون كالتحفة المعروضة، بمعنى أن تأثيره ووجوده وآراءه سيكون مكانها المسجد فقط.

وبما أن ذلك الرجل سيكون هو الوحيد المخول بالحديث عن الإسلام أو استلهام أية قيمة منه في الحياة العامة، فإن الإسلام ذاته سيبقى حبيس جدران المساجد، خاصة مع تواصل حملة إعلامية أخرى –غير حملة تقديس الأزهر- تغرس قيم العلمانية وتسفه من فكرة استدعاء الإسلام في الشأن العام.

هنا قد يصل الأمر إلى وضع ما يشبه الإكليروس الأزهري، فربما تكون لدينا رتب دينية ولو على سبيل التشابه مع تلك الرائجة في الحوزات العلمية للشيعة، بيد أن تلك الأخيرة غير مقيدة أبدا بسلطان الدولة، عكس الأزهر الذي سيعمل وفق خطة مرسومة.

فالمؤسسة الدينية الشيعية وإن كانت قد حظيت بقدسية تظلل رجالها ورتب تشبه الوضع في المسيحية، فهي مستقلة ماليا عن الدولة، ولا يضطر أي من رموزها لمنافقة من هم في الحكم أو من يسيطر على الإعلام لاستبقاء قدسيته، فهو يستمدها عبر تفاعله المباشر مع الشارع، والذي فتح له المجال للعب دور سياسي.

أما رجل الأزهر فسيكون حريصا على استبقاء قدسيته والامتيازات التي يخولها له الإعلام باعتباره وكيل الدين في الأرض، ومن ثم سيساير النخب المتحكمة في المشهد العام في اتجاهاتها، ولن يفكر أبدا في وضع قدم في "مستنقع السياسية" ليحافظ على مكتسباته.

السيناريو الأسوأ سيكون دخول رجل الأزهر في مشهد كذلك في الشأن السياسي، ولكن دون خيار مستقل لأنه لا يملك رفاهية الاستقلال، وبالتالي سيكون دخوله مشروطا ببعث الحركات الإسلامية السياسية للمشهد مرة أخرى، وسيكون دوره عندها هو تكفير هذه الحركات باعتبارها من "الخوارج" عن المجتمع، وهو دور يؤديه البعض من الآن.

في حال تحقق ذلك السيناريو الأخير فسنكون أمام ما يطابق كنائس القرون الوسطى في أوروبا المتحالفة مع النخب الإقطاعية الحاكمة، وإذا لم يتحقق واحتفظ الأزهر بقدسية مقترنة ببعده عن السياسة فسنكون أمام مؤسسة "مدخلية" من الطراز الأول، أو ربما كنسية كحال الكنائس في الاتحاد السوفيتي مثلا، أو في دول أخرى في عالم اليوم.

ليست هناك تعليقات: